تحت ضغط الأزمة المالية التي تعصف بمصر، قام المصرف المركزي المصري بتعويم الجنيه ليبدأ معه عصر التقشف. هذا القرار يضع مصر على طريق صعب، وهو يشكل نموذجا لما قد يحصل في لبنان إذا ما تمّ تعويم الليرة.تحت وطأة التراجع الاجتماعي والإقتصادي، إندلعت في مصر ثورة «الغضب» في ٢٥ كانون الثاني ٢٠١١. هذه الثورة إنتهت بتنحّي حسني مبارك وتوّلي الإخوان المُسلمين الحكم في مصر، إلا أن إستمرار تردّي الأوضاع الإقتصادية، دفع بالجيش إلى إستلام السلطة في ٣ حزيران ٢٠١٣.
في العام ٢٠١٤، قام الرئيس السيسي بوضع خطّة نهوض إقتصادية تنص على زيادة مداخيل الدوّلة من العملات الأجنبية كما وخلق وظائف عمل للمصريين. على هذا الأساس تمّ تدشين مشروع تطوير قناة السويس في آب ٢٠١٤ والذي ينصّ على توسيع القناة إضافة إلى خلق منشآت خدماتية، سياحية وإقتصادية ليتمّ بذلك تأمين ما يزيد عن مليون فرصة عمل للمصريين. وتضمّنت الخطة أيضًا تحفيز السياحة من خلال جذب السياح وتأمين سلامتهم.
لكن تردّي الظروف الاقليمية، دفع الوضع الاقتصادي والمالي الى مواجهة صعوبات اضافية، خصوصا مع تردّي العلاقة مع الولايات المُتحدّة الأميركية والتقارّب الروسي – المصري والذي حرم مصر من مساعدات أميركية سنوية منتظمة منذ توقيع معاهدة كامب دايفيد. وترافق هذا التردّي في الوضع الاقتصادي مع زيادة نسبة الفساد المُستشري في دوائر الدولة وفي القطاع الخاص.
وصول الملك السعودي سلمان فتح أفقا جديدة في العلاقات المصرية – السعودية حيث تمّت الترجمة خلال الزيارة التاريخية التي قام بها الملك السعودي إلى مصر وتعهُّد المملكة السعودية تقديم المساعدات إلى مصر خصوصا في مجال الطاقة مع ٧٠٠ ألف طن شهريًا من المحروقات على فترة ٥ سنوات.
لكن تطبيق هذا الاتفاق واجه عراقيل انتهت الى اعلان شركة أرامكو السعودية وقف تصدير المحروقات إلى مصر على شهرين مُتتاليين مما دفع بالقضاء المصري إلى إلغاء معاهدة نقل جزيرتي تيران وسنافير الى السيادة السعودية.
هذا الواقع زاد من حدّة الأزمة الإقتصادية والمالية في مصر خصوصًا أن الهجمات التي تقوم بها المجموعات المُسلّحة في سيناء تؤثر سلبًا على القطاع السياحي بما يعني تراجع تدفق العملات الأجنبية! هذا التراجع ألزم المصرف المركزي المصري بالدفاع عن الجنيه من خلال إحتياطه الذي إنخفض إلى ١٩.٦ مليار د.أ أي نصف قيمته في العام ٢٠١١.
هذا الأمر دفع بالحكومة المصرية إلى طلب قرض بقيمة ١٢ مليار د.أ من صندوق النقد الدولي الذي وافق بشروط قاسية على المصريين وعلى رأسها تعويم الجنيه المصري (تحرير سعر صرف الجنيه)، خفض المساعدات الاجتماعية، وقف الدعم عن المحروقات (٧.٩٪ من إنفاق الدوّلة)، زيادة الضريبة على القيمة المُضافة، الحصول على تمويل أخر بقيمة ٦ مليار دولار أميركي من جهات أخرى.
في ٣ تشرين الثاني ٢٠١٦، قرر المصرف المركزي المصري خفض سعر صرف الجنيه بنسبة ٤٧.٧٪ من قيمته لتنحفض بذلك قيمته من ٨.٨ جنيه للدولار الواحد إلى ١٣ جنيها. هذا الخفض يأتي بعد سلسلة من التخفيضات أخرها كان في أذار ٢٠١٦.
فيالوقت نفسه قرر المصرف المركزي تحرير سعر صرف الجنيه مقابل الدولار الأميركي. هذا القرار لم يمرّ مرور الكرام حيث أن أولى مؤشرات عدم الثقة بالإقتصاد المصري كانت التداول بالجنيه بسعر ١٨ جنيها للدولار الواحد في السوق السوداء. هذا التطور السلبي في سعر صرف الجنيه دفع بالمصرف المركزي إلى رفع سعر الفائدة إلى ١٤.٧٥٪.
من البديهي القول إن إنخفاض سعر الجنيه مقابل الدولار الأميركي يُقلّل من قدرة الإستيراد للاعبين الإقتصاديين وخصوصا إستيراد المواد الأولية والمواد الغذائية الأساسية التي بدأ السوق المصري يفتقدّها بشدّة كالمحروقات (إرتفعت أسعارها ٤٧٪) والسكّر (سعر الكيلو ١٠ جنيه) والأرز والزيت والأدوية مع ارتفاع أسعارها بشكل جنوني (أكثر من ٥٠٪).
بالتزامن مع هذه الأحداث، بدأت الحكومة المصرية رفع الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية إضافة إلى حصولها على قرض بقيمة ٢ مليار دولار أميركي من كونسورتيوم مؤلّف من عدة مصارف عالمية لمدّة عام واحد. أيضًا قامت وزارة المال المصرية بإصدار سندات خزينة بقيمة ٤ مليار دولار أميركي في بورصة إيرلندا.
بالطبع، إن خفض قيمة العملة المصرية له تأثير إيجابي على السياحة، إلا أن غياب الثبات الأمني خصوصا مع وجود المجموعات المُسلّحة يُقلّل من شهية السياح لزيارة مصر وبالتالي من المُتوقعّ ألا يكون هناك من تأثيرات إيجابية ملحوظة في هذا المجال. أما على صعيد التصدير، فمن المُتوقع أن ترتفع نتيجة هذا الإنخفاض، إلا أن الضعف العام للماكينة الإنتاجية يحدّ من المفاعيل الإيجابية.
يبقى التأثير السلبي لإنخفاض الجنيه أكبر بكثير من التأثير الإيجابي في بلد يستورد كل ما يستهلكه تقريبًا. فإنخفاض العملة سيرفع من كلفة الإستيراد ويمنع الإستثمارات على المدى القصير بسبب عدم ثبات العملة وغياب الثبات الأمني. وبالتالي، فإن التداعيات الاجتماعية ستكون واضحة مع معدل أجر شهري يُقارب الـ ١٠٠ دولار أميركي.
وفي لبنان، يعمد البعض إلى المُطالبة بتعويم الليرة اللبنانية بحجّة أن كلفة تثبيتها عالية. لكن ما يجري في مصر يُفترض ان يشكل نموذجا يُثني عن خطوة شبيهة، خصوصا اننا في لبنان نعاني من مستوى دين عام مرتفع وضعفاً في الإستثمارات ولدينا ضعف في الماكينة الإنتاجية، بالاضافة الى تداعيات النزوح السوري الكارثي.