منذ عام، دوّى انفجار كبير في أحد الأزقة الشعبية المكتظة في منطقة برج البراجنة ـ عين السكة، تلاه انفجار آخر. كان حجم الخسائر هو الأكبر على الإطلاق بالمقارنة مع التفجيرات الأربعة السّابقة التي استهدفت الضاحية الجنوبية (بئر العبد، الرويس، تفجيرا حارة حريك)، على مدى عام ونصف عام.
هي العمليّة الأولى التي نفّذت في ساعات الليل الأولى (حوالي الساعة السادسة مساء). كان الظّلام يخبئ نصف الحقيقة. فحتّى ساعة متأخرة من ليل «الخميس الأسود» كانت القوى الأمنيّة تظنّ أنّ عدد الانتحاريين هو ثلاثة وأحدهم مات من دون استطاعته تفجير نفسه، قبل أن تكتشف أنّ التفجير كان مزدوجا.
عاشت الضاحية بأمانٍ لحوالي عام وخمسة أشهر كاملة (بعد تفجير الطيونة في 23 حزيران 2014)، الى أن وقع انفجار عين السكّة.. وعادت معه الشائعات عن انتحاري محتمل هنا أو هناك، فيما كانت المعطيات الأمنية تشي بوجود حملة أحزمة ناسفة في أكثر من منطقة لبنانية.
ومجددا، أظهرت الكاميرات والنقل المباشر افتقاد الضاحية ومستشفياتها لخطط الطوارئ. إذ إنّ بعض أهالي الضحايا بحثوا كثيراً في المستشفيات من دون أن يتمكّنوا من معرفة مصير أولادهم حتى بزوغ الفجر.
هي الفاجعة التي خلّفت وراءها 43 شهيداً وأكثر من 240 جريحاً. كان لهؤلاء الشهداء وجوه وأسماء وعوائل وعناوين. قرّر انتحاريّان أن يكون يوم 12 تشرين الثاني اليوم الأخير للضحايا الذين استشهدوا.
الطفل حيدر مصطفى كان له قبل هذا التاريخ أب وأم، وأضحى بعد ذلك «يتيماً يريد لقاء ميسي» علّه بذلك يعوّض شيئاً من خسارة عائلته.
ولأنّ الجريمة الإرهابيّة كانت كبيرة، كان تحرّك القوى الأمنيّة على مستواها، وبعد ثلاثة أيّام على وقوعها، كان وزير الداخلية نهاد المشنوق يجلس صباح يوم الأحد في مقرّ المديريّة العامة لقوى الأمن الدّاخلي متوسّطاً اللواء ابراهيم بصبوص ورئيس فرع المعلومات العميد عماد عثمان، ليعلن إلقاء القبض على العديد من أفراد الشبكة الإرهابيّة التي خطّطت ونفّذت تفجير برج البراجنة.
فعلتها «شعبة المعلومات» وخصها بعد ساعاتٍ قليلة الأمين العام لـ «حزب الله» السيّد حسن نصرالله بتحية خاصة، كما حيا باقي المؤسسات العسكرية والأمنية.
إنجاز «المعلومات» هو الأسرع على الإطلاق في القبض على خليّة إرهابيّة بعد حوالي 48 ساعة على تنفيذ الجريمة، برغم محدوديّة الإمكانات. فهذا لا يحصل في الدّول المعروفة باحترافيّة أجهزتها المخابراتيّة.
ولم يكن إنجاز «المعلومات» ليتحقّق لو لم تقم قبل يومٍ واحد من التّفجير بإلقاء القبض على مشروع انتحاري هو ابراهيم الجمل، لتجنّب بذلك جبل محسن من مجزرة أخرى.
كان الخيط الأوّل هو تطابق الحزام النّاسف الذي كان بحوزة الجمل مع الحزامين النّاسفين اللذين زنّر انتحاريّا برج البراجنة نفسيهما بهما. أعيد التّحقيق مع الجمل هذه المرّة لكن بنفسٍ مختلف، لتكرّ سبحة التوقيفات بناء على اعترافاته وتحليل «داتا» الاتّصالات والكاميرات في المنطقة..
المخطّط أكبر من تفجير
سريعاً، تهاوت الشبكة. وبدا أنّ الأمر أكبر من تفجير، إذ إنّ المخطّط كان يقضي بتفجير عبوة تزن عشرة كيلوغرامات من المواد الشديدة الانفجار عند بسطة قهوة أمام «مشروع الحريري» في حيّ الأميركان في جبل محسن وفي وقت الذروة. وبعد تجمهر المواطنين، يفجر الجمل نفسه بواسطة حزام ناسف يحوي خمسة كيلوغرامات من المواد الشديدة الانفجار مدعما بقنبلة يدويّة وكرات حديديّة.
وبعد ساعات قليلة، تكون الضاحية على موعد مع متابعة حلقات المسلسل الإجرامي مع انتحاريين يرتدي كل منهما حزاماً ناسفاً مع دراجة نارية بداخلها حقيبة فيها حزامان ناسفان آخران مربوطان بعضهما ببعض ومعدّان للانفجار بطريقة التحكم عن بُعد.
وتقضي الخطّة بأن يقوم الانتحاري الأوّل (أشارت التّحقيقات إلى أنّه سوريّ ويدعى عامر الفريج وملقّب بـ «وليد») بركن الدراجة المفخخة في الشارع من ثمّ يشغل ساعة وجهاز التوقيت، ويبتعد عنها، وبعد انفجارها وتجمع أكبر عدد من الناس، يندسّ بينهم ويفجّر نفسه، فيما ينتظر الإرهابي الثاني (تردّد أنه السوري عماد مستّت أو «غيّاث») أمام «مستشفى الرسول الأعظم» على طريق المطار القديم (قبالة مطعم الساحة)، حيث يفجّر نفسه عند المدخل مع ازدياد توافد أهالي الضحايا.
حصل ما لم يكن في الحسبان، إذ قتل «وليد» جراء انفجار الحقيبة التي كانت تحتوي على الأحزمة من دون أن يتمكن من تفجير حزامه، ليقوم «عماد مستت» الذي كان يراقب العمليّة قبل انتقاله إلى «الرسول الأعظم» بتفجير نفسه في عين السكّة بدلاً من المستشفى.
وإذا كان «داعش» قد فشل في تنفيذ المخطّط بحذافيره ونجح بتحقيق جزء منه، فإنّه في المقابل خسر عدداً لا يستهان به من عناصره بعدما وقع في قبضة «شعبة المعلومات» والأمن العام 21 متّهماً من أصل 30، فيما لم تفلح القوى الأمنيّة في القبض على الرأس المدبّر لهذه الشبكة داخل لبنان وهو السوري سطّام الشتيوي (مواليد 1984) والذي كان يقطن في عرسال، فيما استطاع «حزب الله»، في عمليّة أمنيّة داخل سوريا، قتل الرّجل الثاني في هذه الخليّة عبد السلام الهنداوي الملقّب بـ «أبو عبدو».
أمّا الصيد الأثمن في هذه الخليّة فهو اللبنانيّ بلال البقّار. في البداية، استطاع هذا الشاب الإفلات من الأمنيين في طرابلس. ولكن بعد رصد وتحليل لـ «داتا الاتصالات»، نجح «فرع المعلومات» في توقيفه في 12 كانون الأوّل 2015 في محلة أبي سمراء، أي بعد شهرين من وقوع التّفجير.
كان للبقّار أدوار أساسيّة في هذه الخليّة. هو من مبايعي «داعش» وانتقل إلى الرقّة حيث خضع لدورات دينيّة وعسكريّة بينها تصنيع المتفجّرات. فكان يستلم المتفجّرات من الشتيوي عبر ابراهيم رايد (الذي استفاد من عدم التزام بعض الحاصلين على رخص استيراد المواد المتفجّرة، بالقوانين وعشوائيّة البيع)، ثمّ يعمد مع الانتحاري «وليد» ومع ابراهيم الجمل الى «طبخها». كما تبين أن البقّار هو من جنّد الجمل لتنفيذ العمليّة الانتحاريّة في جبل محسن، بالإضافة إلى دوره المحوريّ في نقل الانتحاريين وإيوائهم في شقّة الأشرفيّة.
تفجير «صُنع في لبنان»
في المحصلة، تهاوت الشبكة لتكشف عن تغييرات في طريقة عمل «داعش». إذ ظهر للمرّة الأولى أن تفجير برج البراجنة كان أقرب إلى صناعة لبنانيّة مع التأكّد أن الإمرة والتنفيذ كانا للبنانيين البقّار والقيادي في «داعش» محمّد عمر الإيعالي الملقّب بـ «أبو البراء» الموجود في الرقّة ويعتبر من المكلّفين من قبل أبو بكر البغدادي بالملفّ اللبنانيّ، بالإضافة إلى حوالي 10 لبنانيين متّهمين في الملفّ نفسه.
هكذا بدا أن التنظيم الأكثر إجراماً عينه على لبنان دائماً وجاهز للاختراق متى سنحت له الفرصة، إذ إن هيكليّة الخليّة النائمة العنقودية كانت قائمة بشتّى مستوياتها من التجنيد فالتخطيط إلى التنفيذ ثمّ الدّعم اللوجستي.
ولذلك، لم تحتج الخليّة من خارج الحدود إلّا للانتحاريين على اعتبار أنّ التنظيم، بعد ضبط الحدود، أوكل إلى عناصره في الدّاخل اللبنانيّ شراء المتفجّرات وتصنيعها من خلال تلقيهم دورات في الرقّة أو بإرسال أقراص مدمجة تشرح عمليّات التصنيع.
وهذا ما يفسّر سبب ضبط الأجهزة الأمنيّة في مستودع المتفجّرات في طرابلس حوالي 180 كلغ من المتفجرات والكرات الحديدية وعددا كبيرا من الصواعق وكمية كبيرة من فتائل التفجير وعتلات تستعمل جميعها في تصنيع أحزمة ناسفة (وهي كمية كافية لصنع أكثر من 50 حزاماً ناسفاً)، بالإضافة الى ضبط ثلاثة أحزمة مجهزة للتفجير.
والأكثر وضوحاً في هذا التّفجير هو اتّكال «داعش» على تشكيل خلايا عنقوديّة. فكانت الأوامر المعطاة واضحة بألّا يعرف العناصر بعضهم بعضاً.
ولذلك، كانت طمأنينة أحمد مرعب الذي سلّم الحزام النّاسف إلى الجمل، مفهومة. فعندما تمّ إلقاء القبض على الأخير، بقي مرعب على حاله وحتّى أنه ذهب إلى عمله، مطمئناً بأنّ الجمل لا يعرف هويّته لأنّه كان ملثماً حينما سلّمه الحزام.
كما تبيّن من هذا التّفجير أنّ «داعش» حاول قدر الإمكان الاستفادة من أشخاص غير مشكوك بأمرهم. وكانت المفارقة أنّ عنصرين أمنيين رسميين (عريف ورقيب) يقدّمان الدّعم اللوجستيّ للخليّة من خلال نقل المتفجّرات مستفيدين من بدلاتهم العسكريّة للمرور على الحواجز الأمنية اللبنانية. كما نالت الخليّة مساعدة بتزوير هويّات عناصرها والانتحاريين من أحد ممتهني هذا الكار في بلدة بريتال، بالإضافة إلى قريبٍ من محافظ حمص لتسهيل إدخال الانتحاريين ومنفذي التفجير.
بانتظار الاعترافات العلنيّة
اليوم، بعد عامٍ على وقوع التّفجير الإرهابيّ، ما زال المدّعى عليهم من قبل قاضي التّحقيق العسكريّ الأوّل رياض أبو غيدا الذي أصدر قراره الاتّهامي في 15 آذار، موقوفين. مثلوا قبل شهر أمام المحكمة العسكريّة للمرّة الثانية. حينها لم يسق ابراهيم الجمل وغاب عدد من المحامين.
سيعود هؤلاء بعد 25 يوماً إلى «العسكريّة»، التي خصّصت لهذا الملفّ يوماً من خارج جدول أعمالها، للبدء بالاستجواب العلنيّ الأوّل للمتّهمين.
لينا فخر الدين