لا تجعلوه يترك لبنان ثانيةً

بعد ثماني سنوات من الغربة يمّم الاستاذ عصام فارس مع ولديه شطر لبنان في تقديم واجب التهاني بانتخاب فخامة الرئيس العماد ميشال عون، ولم تمضِ على وجوده في بيروت ثلاث ساعات حتى غادر أرض الوطن عائداً الى مقره الاختياري في اوروبا، هذه الزيارة حركّت الطامحين للقاء دولة الرئيس عصام فارس، وشيّعوا أنّ مركز نائب رئيس مجلس الوزراء سيكون من نصيبه، علماً أنّ فارس زاهد من المناصب السياسية.

في ضوء ذلك، نعلم أنّ عصام فارس الذي أغضبه اشتغال السياسيين، في هذا الزمن العجيب، إمّا بالحرتقات الصغيرة وإمّا بالأمور الشخصية بكل ما لها من سيّئات ومضار، في حين أنّ الوطن مستهدف من الداخل والخارج، وأنّ المؤامرات الإقليمية والدولية يتفاقم خطرها على سلامته يوماً بعد يوم، ترك الساحة اللبنانية خالية من حضوره ووقاره… وكفّ يديه عن العطاء، ومشاريع العمران، وأعمال الخير، ومنح التعليم والتخصّص العالي، ومساعدة المرضى والفقراء، وما إلى ذلك من المبرّات التي تعوّد المحتاجون، دون تمييز بين أبناء المناطق والطوائف، أن يأخذوا منها نصيبهم.

عصام فارس، كبير لبنان الذي لا أدري مَن هم الذين خانوه، ولا مَن هم الذين خذلوه، أعرف أنه ولّى غاضباً، عاتباً على الذين لا يرعون عهود الشرف، ولا حساب للوفاء في دفاترهم القديمة والجديدة.

عصام فارس إنسان كبير له حضوره في العالم المتمدّن. صلاته وثيقة بالعديد من الرؤساء، ورجالات الفكر والعلم، والصناعة والتجارة. إثر غربة طويلة تكلّلت بالنجاح، وتميّزت بالتفوّق، عاد الى لبنان ورأسه مملوء بالمشاريع، وقلبه طافح بالمحبة، وحلمه أن يرى جبل الرب وطناً عظيماً يستعيد مجده بين الأوضاع ويتابع الرسالة المثلى التي بها يبرّر غاية وجوده.

قبيل الانتخابات النيابية التي ما زالت حتى اليوم ترشق بحجارة الاتهام، رأى دولة الرئيس عصام فارس أن الاجواء الداخلية باتت ملبّدة بالغيوم، واشتّم على ما بدا لنا يومئذ روائح غير نظيفة لا تلائم مناخ الديموقراطية التي يحب، فما استطاع أن يسوق مع السوق، وآثر الانسحاب موفور الكرامة مرفوع الرأس. فعصام فارس رجل عصامي جمع ثروته بجهده وكفاحه وعرق جبينه.

وقد تعوّد أن ينفق دون حساب في سبيل الخير العام، لكن لم يعرف عنه قطّ أنه دفع لأحد فلساً واحداً على سبيل الرشوة. هذا إنسان نظيف شريف، ربي في مغتربه على الديموقراطية الصحيحة. خاض معترك الشأن العام، ومارس مسؤولياته في شفافية وإخلاص، فبلغ أقصى ما يمكن أن يبلغه رجل الدولة الأرثوذكسي في ظلال النظام الطائفي الذي ما زلنا في هذا البلد السعيد نعيش على رحمته. لكنه لم يتأقلم مع السياسة السائدة: سياسة القيل والقال، سياسة الصفقات والسمسرات، وخاصة سياسة التنازلات الكبيرة.

بمنتهى الصدق، أقول وأنا مرتاح الضمير : إنّ عصام فارس سياسي بلا خطيئة، في بلد اسمه لبنان يعج بالحيتان.

أقول ذلك كله، صدّقوني، عن رجل لم يُتح لي شرف التعرّف إليه شخصياً. ولست كذلك من أبناء المنطقة التي ينتمي إليها. لكنني مواطن لبناني لي مسؤولياتي الصحافية والنقابية، وأرى نفسي ملزماً أن أقول ما لا يجوز السكوت عنه.

إنّ انسحاب دولة الرئيس عصام فارس من حياتنا العامة أمر بالغ الخطورة. ليتنا نهبّ جميعاً شعباً وحكومة، وهيئات عامة وخاصة، وندعوه للعدول عن قراره، حباً بلبنان الذي آمن بعظمته ومجده، وأراده أن يظل كبيراً بين الأوطان. فالذين مثل عصام قلائل يعدّون على الأصابع.

وحرام أن يخسر لبنان واحداً من أبناء هذه النخبة المباركة، وهو اليوم في حاجة الى عطائه أكثر من كل يوم مضى.

واننا على يقين بأنّ دولة الرئيس عصام فارس ينتظر اقرار قانون جديد للانتخابات النيابية. وفي ضوء هذا القانون يشدّ رحاله عائداً الى عكار … الى وطن الارز.

الياس عون – نقيب محرري الصحافة اللبنانية

النهار

اخترنا لك