خرج كامل أمهز من زنزانته. فتح له الهواء لدقائق طويلة في وسائل الإعلام ليتحدث عمّا جرى معه خلف الأبواب المغلقة. حمله أصدقاؤه وأقاربه على الأكتاف وهلّلت صفحة “محبي الحاج كامل أمهز” التي وضعت صورته “فوتوشوبياً” على قلعة بعلبك مرفقاً بالعلم اللبنانيّ، لهذا الخبر.
في مقابل كلّ هذا الفرح، كان هناك من استاء من “المبلغ الكبير” (15 مليون ليرة لبنانيّة) الذي حدده قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا ككفالة مقابل إخلاء سبيل أحد أهمّ تجّار الهواتف الخلويّة في لبنان. رقمٌ يعادل أقل من نصف ما يتوجّب على المتظاهرين في “الحراك المدني” دفعه جراء أضرار لحقت بالأعتدة العسكريّة!
الإشكاليّات تختزل في قضيّة واحدة (ضمّ ملف النيابة العامة المالية إلى الملف المحال للقاضي أبو غيدا) بتهمٍ متعدّدة: التماس رشى، تهرّب جمركي، إدخال أجهزة مهرّبة.. ووصولاً إلى الإتجار بالمخدّرات.
لم يعد مهمّاً معرفة ما إذا كان أمهز متورطاً في الإتجار بالمخدّرات أو حتّى “مفاجأة” اللبنانيين بأنّه متّهم بتهريب الأجهزة الخلويّة. لم يعد مهمّاً ما إذا كان العسكريون فعلاً التمسوا الرشى وهرّبوا الممنوعات.
كلّ ذلك لم يعد مهمّاً، ما دامت الرواية لم تروَ كاملة وستبقى لها فصول سريّة! والأهم من كلّ ذلك أن يتم توقيف الثلاثة (أمهز والعسكريين) فيما “الرؤوس الكبرى” محميةً بعباءات زعمائها السياسيّة والطائفيّة!
ماذا يعني أن يعترف العسكريان في مقر أمني رسمي بأسماء الضابطين اللذين كانا يأتمران بأوامرهما في إدخال الممنوعات عبر “مطار رفيق الحريري الدولي”، وأن يُقرّا بأسماء شركات الطيران وأرقام الرحلات التي كانت تأتي على متنها حقائب المخدّرات والأموال والأجهزة الخلويّة من دون أن يتم التوقف عندها؟
والأهم من كلّ ذلك، ماذا يعني أن يكون الضابط المتّهم بإدخال المخدّرات والأجهزة الخلوية ضابطاً يتردّد إلى المحكمة العسكريّة باستمرار. ليس بصفته متهماً بل بصفته محامياً عسكرياً مكلّفا من مؤسسته بالدّفاع عن مدّعى عليهم لم يكلّفوا محامياً للدّفاع عنهم في الجنح إذا رغبوا في ذلك أثناء استجوابهم في “العسكرية”.
منذ أيّام معدودة، بقي الضابط حتّى ساعة متأخرة ليلاً، يقف أمام المنصة ليطلب “البراءة” و”كف التعقبات” عن المتهمين الملاحقين بجنح. كان هو الضابط فيما كان الواقفون أمامه موقوفين.
خرج الضابط من المحكمة مع سائقه، وفي الجهة الثانية كان عسكريان موقوفان يرددان اسمه عشرات المرّات من دون أن يتم الاستماع إليه كشاهد، حتّى سأل وكيل الدّفاع عن أحدهما المحامي شريف الحسيني في مذكّرة قدّمها للقاضي أبو غيدا للمطالبة بمنع المحاكمة عن موكّله: “هل المطلوب أن يكون ع. أمهز هو كبش فداء”، متسائلاً عن سبب عدم الاستماع إلى الضابط والعسكريين الذين ذكرت أسماؤهم في التّحقيقات؟”. ومن المتوقّع أن يتقدّم الحسيني بطلب التوسّع بالتحقيق والاستماع إلى هؤلاء.
لا يريد الأمنيون الإجابة عن سؤال: “لماذا لم يتم استدعاء الضابط؟”. في الأصل، وبعد مدّة وجيزة، “ستتبخّر” سيرة الضابط كما تتبخّر الحقيقة، ليعود اسمه فيطفو على رأس جدول الترقيات. هكذا، ستتم ترقية الضابط، فيما سيحاكم العسكريان بتهمة الرشوة ويمضيان محكوميتهما ثمّ يطردان من مؤسّستهما التي ستحرمهما وعائلتاهما من التعويضات والمساعدات المدرسيّة والاستشفائيّة!
عندما تفتقد المعايير، تختل العدالة. هذا ما يبدو جليّاً بين حالتين مختلفتين: في الأولى يتم توقيف متّهم بالتهرب الجمركي وإعطاء رشى للعسكريين، وحتّى إدخال مخدّرات لمدّة 21 يوماً، ثم يخرج بإخلاء سبيل يشبه “صك البراءة” بعد أن تتحول قضيته إلى قضية رأي عام. وفي الثانية، سيخرج طلّاب إحدى أهم الجامعات اللبنانيّة من السجن، بعد أشهر قليلة، بعد أن ينهوا محكوميتهم بالسجن خمس سنوات بسبب تعاطي المخدّرات وترويجها، تماماً كالفتاتين القاصرتين اللتين أحبّتا شاباً موقوفاً طلب منهما إدخال المأكولات إلى سجنه وتبيّن لاحقاً أنّها تحوي مخدّرات!
لماذا لم ينطبق المعيار الواحد بين أمهز من جهة وطلاب الجامعة الشهيرة والفتاتين القاصرتين، أو بين أمهز من جهة وآخرين ينتظرون خلف القضبان جلسة استجوابهم لقول أي شيء؟
هذا ليس ذنب رجل الأعمال الذي قد يكون مظلوماً وقد لا يكون، بل هو ذنب دولةٍ بأكملها توزّع الامتيازات على “حاشيتها” وتُعاقب الضعفاء، حتى تصبح النظرية غير المنطقية هي السائدة: “حاسبوهم جميعاً أو البراءة للجميع”!
ماذا يقول الموقوفون؟
في المحصلة، أخلي سبيل المتّهم بإدخال عشرات آلاف الأجهزة الخلويّة بطريقة غير قانونيّة إلى لبنان. لا يعرف المطلعون كيف تغيّرت ملابسات الملفّ الذي بدأ في اليوم الأوّل داخل “فرع المعلومات” في قوى الأمن الدّاخلي من “كتاب معلومات” يتّهم الرتيبين ع. أمهز وم. بو عبدالله بإدخال أجهزة خلويّة مهربّة برغم نفيهما الأمر، ثمّ أحيل الملف إلى مخابرات الجيش بصورة عاجلة بطلب من مفوّض الحكومة المعاون لدى المحكمة العسكريّة القاضي فادي عقيقي بـ “كتاب معلومات” يتّهم الرتيبين المذكورين بتهريب المخدّرات داخل حقائب.
وما لبث أن عاد الملفّ إلى “المعلومات” مكتملاً: الكشف على إحدى الحقائب من قبل الأدلّة الجنائية يثبت وجود آثار مخدّرات عليها، بالإضافة إلى اعترافات الرتيبين اللذين أشارا إلى أنّهما كانا يُدخلان حقائب تحتوي على ممنوعات بأمرٍ من رئيسهما المباشر الضابط المسؤول عنهما وهو الرائد ن. ض. والرتيبين المساعدين له ب. ز. وي. خ. وحقائب أخرى لمصلحة ضابط من آل ض.
وأشار الموقوفان إلى أنّهما عرضا على الرائد ض. وآخر من آل ح. إدخال حقيبة تحتوي على مليون ونصف المليون يورو، فقال الأوّل إنّه سيفكّر في الموضوع من دون أن تتمّ هذه العمليّة بسبب إلقاء القبض عليهما.
أعطى الرتيبان الكثير من الإفادات المتضاربة. ففي إحدى الإفادات أشار أحدهما إلى أنّهما كان يهرّبان المخدرات إلى ع. أمهز (الذي لم يتمّ إلقاء القبض عليه حتّى اليوم)، والتي يعطيها إلى شخص ثانٍ هو الذي يكون صلة الوصل بينه وبين كامل أمهز.
وفي إفادةٍ أخرى، يؤكّد أحد العسكريين أنّه كان يهرّب المخدّرات لمصلحة م. ج. وكامل أمهز وآخرين بعلمٍ وتغطية من الرائد ن. ض. مسمياً كيف يتم تسليم هذه الحقائب وعلى أي طيران ورقم الرّحلة الآتية على متنها!
فيما عاد العسكريان ونفيا هذه الإفادة، مشيرين إلى أنّها انتزعت منهما تحت الضغط والتعذيب في مديريّة المخابرات.
في المقابل، ومنذ أن تم توقيف كامل أمهز أصرّ الرجل على نفيه هذه الاتهامات، قبل أن يتم مواجهته بالعسكري ع. أمهز الذي نفى تورّطه!
هكذا خرج منها كامل أمهز “مثل الشعرة من العجينة”، فيما المرجّح ألّا يستمع إلى إفادته من جديد إلّا في المحكمة العسكريّة، وذلك إذا ما قام القاضي رياض أبو غيدا بالادعاء عليه في قراره الظني الذي سيصدر قريباً.
لينا فخرالدين