وجه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، جاء فيها: “الحمد لله الذي أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى والحق المبين، نحمده سبحانه على إسباغه النعم، وإغداقه العطايا والمنن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، سيد الخلق أجمعين، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، والشفاعة العظمى، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد :
ًيقول المولى تبارك وتعالى في محكم تنزيله: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا”.
اضاف : “تحل علينا الذكرى العطرة لمولد نبينا محمد، صلوات الله وسلامه عليه.
وهي ذكرى اعتاد المسلمون على الفرح والاحتفال بها، لما يمثله صلوات الله وسلامه عليه، في أفرادهم، ومسيرة حياتهم، من حب وإعزاز واعتزاز.
فهو الذي حمل الرسالة، وأدى الأمانة، وأقام بتوفيق الله سبحانه وتعالى الأمة والدولة.
ولد عليه الصلاة والسلام يتيما لجهة الأب.
وتوفيت والدته وهو صغير، فكفله جده عبد المطلب. وعندما توفي جده، رعاه عمه أبو طالب. فكأنما أراد الله له عز جاهه، وجلت حكمته، أن يكون مثلاً لأطفال العالم، الذين يكافحون النشأة الصعبة منذ الصغر. ويحسون ويعرفون أحاسيس الأطفال المحرومين من نعمتي الأب والأم.
والمعروف عنه عليه الصلاة والسلام، أنه كان طوال حياته، بالغ الرأفة بالأطفال، والأيتام منهم على وجه الخصوص. وكان سائر الأطفال بمكة والمدينة، يحسون منه ذلك، فيقتربون منه ولا يخشونه، ويصاحبهم هو، ولا يتردد في ملاعبتهم، والمزاح معهم ومسابقتهم، وإهدائهم ما يحبه الأطفال ويرغبون فيه.
وإلى ذلك، فقد كان عليه الصلاة والسلام وفيا لصديقات والدته، يعنى بهن في شيخوختهن، كما كان يعنى بصديقات زوجته الأولى، خديجة بنت خويلد، بعد وفاتها.
ولذلك، قال الله عز وجل عنه في محكم كتابه: وإنك لعلى خلق عظيم، أما هو فيقول عن نفسه: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وقد رآه أحد زواره من البادية، يقبل الحسن سبطه من فاطمة وعلي عليهما السلام، ويضمه إليه، فقال: (يا رسول الله إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم إنسانا قط!) ، فاستغرب عليه الصلاة والسلام الأمر، وقال: (إن من لا يرحم لا يرحم)
إن يوم مولد نبينا اليتيم، هو يوم عيد للطفولة البريئة، التي تقتضي الرعاية والاهتمام، والتنشئة الصالحة. وحبذا لو يكون يوم مولده عليه الصلاة والسلام، هو يوم الاحتفاء بالطفولة عند العرب والمسلمين.
وإذا كنا نحتفي اليوم بمولد نبينا محمد، فإننا سنحتفل مع شركائنا المسيحيين بعد أيام بمولد سيدنا عيسى المسيح عليه السلام. وهو أيضا ميلاد مجيد، يحتفي به المسيحيون، ويحتفي به العالم. وإذا كنا نفرح لمولد محمد وعيسى، ونعتبره عيدا للطفولة، فإننا نعتبر ذلك في وطننا آصرة من أواصر الود والحب والإنسانية”.
وتابع: “إن ما ينغص الفرحة بالمولد النبوي، هذا الهول الفظيع الذي ينزل بأطفال سورية والعراق، الذين يقتلون ويهجرون مع أهلهم، أو بدون أهلهم، الذين ماتوا تحت الأنقاض.
إن ربع ضحايا المذبحة في سورية، هم من الأطفال، كما أن ستين بالمئة ( 60 % ) من المشردين في لبنان والأردن وتركيا، وأصقاع الأرض أطفال أيضا.
ونصف هؤلاء في بلدان اللجوء، وفي غمار الحروب الداخلية، لا يذهبون إلى المدارس، ويفتقرون إلى الغذاء والدواء، والعناية التي يحتاج إليها الصغار.
إن الواحد منا ليخجل عندما يرى مسؤولين دوليين، يأتون لزيارة مخيمات اللاجئين، ويرثون لحالهم، وتفيض أعينهم من الدمع لما رأوه من بؤس وقلة حيلة.
لماذا يحدث كل هذا؟ أوليس اللاجئون وأطفالهم بشراً ؟ أوليس من حق الناس صغارا وكبارا أن يعيشوا في أوطانهم آمنين مكتفين، مثل سائر البشر؟ ولنسمع ماذا يقول الله سبحانه في كتابه عن الطفولة والأمومة وعلاقاتهما: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير? .
كما اعتنت بك أمك أيها الصغير قبل ولادتك وبعدها، يكون عليك أن تعتني بها عندما تكبر. هذه هي الحياة الإنسانية العادية: الطفل والأم وعالمهما، وهي التي حرم منها السوريون والعراقيون، وغيرهم من العرب، حرمتهم منها الطائرات والمدفعية، والتفجيرات التي تقتل الإنسان وتخرب العمران، فتحرم الأم من طفلها وطفلتها، أو تحرم الطفلة من أمها، وإذا سلمتا فللمعاناة في مخيمات اللجوء بين الحر والقر”.
وقال: “يوم المولد النبوي، هو يوم الطفولة، لكنه أيضا يوم الفتوة والرجولة.
فمحمد الطفل، هو نفسه الذي نزل عليه الوحي في كهولته، وهو الذي ناضل وهاجر لنشر دعوته، وصنع المستقبل الآخر للعرب والمسلمين، والإنسانية جمعاء. وهو الوفي لوطنه وبني قومه.
لقد دأبت مع الزملاء من العلماء ورجال الدين الأجلاء، ولأكثر من عامين على الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وكنا جميعاً نخشى من تصدع المؤسسات، وسريان الوهن إلى مفاصل الدولة والنظام. وقد حصل ذلك أخيراً، بمبادرة من المخلصين، والحريصين على سلامة لبنان.
لكن شكوانا عادت للتصاعد، لأن الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، توضع في وجهه عراقيل وعوائق، تذكر بما كان يحصل للحكومات السابقة.
فلماذا يحصل ذلك؟ كأننا ما تعلمنا من دروس التعطيل وعواقبه، وكأن أحدا لا يأبه لحياة الناس وخدماتهم، ونظام حياتهم، الذي تكاتفت فيه وعليه المصاعب والمصائب. إننا محتاجون لحكومة قائمة وفاعلة، تبدأ بتفكيك عقد الأزمات، وتعيد صنع النمو، وتهيىء للانتخابات، وتقي وطننا شرر النار الملتهبة في الجوار.
كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري يسأل: لماذا يقيم الناس دولاً وأنظمة وحكومات؟ وكان يجيب: لتحسين حياة الناس، وصنع المستقبل الأفضل للأجيال القادمة.
إن إدارة الشأن العام مسؤولية كبرى، وهي تقع بالدرجة الأولى، على عاتق السياسيين، الذين يتصدون لها، فأين الإحساس بالمسؤولية في الذي يحصل من تعطيل وتجاذبات؟ تستطيع المطامح والمطامع أن تنتظر قليلا بعد أن انتصرت طويلا، أما المصالح العامة للناس، فلا تنتظر، أو نبقى نراوح مكاننا، كما حدث خلال السنوات الطويلة الماضية”.
واردف دريان: “إن دار الفتوى، هي الحاضنة لجميع اللبنانيين. نحن في لبنان، تربينا منذ نعومة أظفارنا، على احترام الدين، فإن الدين هو المكون الرئيس للحضارة، ومسؤوليتنا جميعا، أن نتعاون ونتكافل، للنهوض بمؤسساتنا، ونسهر على مصالح وطننا، ونحتضن أبناءنا، ونؤمن لهم فرص العمل في بلدهم، خصوصا أننا في عهد جديد، وحكومة نأمل في تشكيلها اليوم قبل الغد، لأن التأخير في ولادتها هو خسارة للوطن، فينبغي تقديم التضحيات من الجميع، فالتضحية هي بطولة من أجل البلد، الذي هو بحاجة إلى الكثير من العمل في شتى الميادين، ومن الصعب الانتظار أكثر مما انتظرنا، لتشكيل الحكومة.
علينا أن نساعد الرئيس المكلف، لإنجاز مهمته، خصوصا أنه أمامنا استحقاقات عديدة، وفي مقدمتها انتخابات نيابية، في الأشهر القليلة المقبلة، وينبغي التحضير لها، قبل فوات الأوان. فالقوى السياسية لها دور في إطار وطني جامع، وهذا بالتالي، يتطلب منا أن نعي أمراً أساسياً، وهو أن المشاورات في توزيع الحقائب الوزارية، لا ينبغي أن يكون عائقا لتشكيل حكومة جامعة، فكل وزارة لها رمزيتها، وهي مهمة في نظرنا، والأهم هو الوفاق والتوافق في السير بالحكومة يدا بيد، بين مكونات الأطياف السياسية كافة، التي ستشارك فيها”.
وختم: “نحن أبناء وطن واحد، ولدينا عيش مشترك مزدهر بحمد الله.
وكما جمعنا مولد النبي محمد اليوم، يجمعنا مولد عيسى غداً.
وكما نتذكر في الأفراح والأتراح كل ما هو عزيز علينا، ومهم لنا، فإنني أريد من اللبنانيين أن يتذكروا العسكريين الأسرى، وأن يسألوا الله سبحانه لهم العودة السالمة.
وأريد أن أستنكر الاعتداء على الجيش اللبناني في بقاعصفرين. وأدعو المواطنين للوقوف مع الجيش والقوى الأمنية في عملها الوطني الكبير.
يا رسول الله طبت مولدا. وطبت فتى. وطبت شابا وكهلا وشيخا. وطبت نبياً ورسولاً.
لقد حملت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وصرت القدوة في السراء والضراء. فجزاك الله خير ما يجزي به نبيا عن أمته.
في ذكرى مولد محمد وعيسى عليهما السلام، أتوجه إليكم بالتهنئة، وأسأل الله سبحانه أن يخرجنا ويخرج العرب من هذا النفق المظلم، قال تعالى: محمد رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما.
صدق الله العظيم وكل عام وأنتم بخير”.