إصلاحاً للخلل القانوني في المجلس الشيعي (6)

كانت المحاكم الشرعية الجعفرية تتصل بالسلطة اللبنانية بشكل مباشر، إلى أن تأسس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، حيث أضحى مرجعية مباشرة للمؤسسات الدينية الشيعية الرسمية، و كما هو الحال بالنسبة للقضاء الشرعي السني حيث لدار الفتوى سلطة مباشرة عليه في بعض القضايا، لكن بفارق وحيد أنّ الأنظمة لدى السنّة تطوّرت كثيراً، و تبلور المشهد العام للمؤسسات الدّينية الرسمية السنية، بخلاف الواقع عند الشيعة .

و لا شك أنّه لعامل تأخّر تأسيس المؤسسة المليّة الشيعية دوره الكبير في عدم انتظام العلاقة بين المؤسسات الدّينية الرسمية الثلاث ( المجلس الشيعي ، و الإفتاء الجعفري ، و القضاء الجعفري )، مضافاً للكسل الذي اتّصف به الشيعة في لبنان على صعيد عدم سعيهم لتطوير مؤسساتهم الرسمية، و انصرافهم لبناء مؤسسات خاصة و أحزاب و جمعيات .. على حساب عملهم الوطني العام ، (و لذلك خلفياته الدينية و الإجتماعية و التّاريخيّة التي قد نوفّق للإضاءة عليها لاحقاً) .

المهم إنّ واقع القضاء الشرعي الجعفري ليس في أحسن أحواله، بل يسوده الخلل على أكثر من صعيد، و يحتاج لنقلة نوعية في مرتكزاته الرّاهنة ، و حتى تستقيم أمور القضاء الشرعي ينبغي تركيز الجهود لتحقيق الأمور التالية :

الأول : استحداث معهد متخصص بالقضاء الشرعي :

يدخل قضاة الشرع لهذا السلك دون أن يكون لهم باع فيه، و جلّ مؤهّلاتهم تكون محصورة في دراسة بعض مطالب القضاء الشرعي خلال دراستهم للفقه الإسلامي ..؛ لذا نلحظ الكثير من الخلل في الأداء و المنهجية ..

و المفروض في هذا المجال تأسيس معهد (للقضاء الشرعي الجعفري)، يُدرّس فيه الفقه الإسلامي الشيعي ، و يتم التركيز على المواد التي يحتاجها القاضي الشرعي ، فتُدرس بشكل معمّق..
و عقب تأسيس هذا المعهد يصبح لزاماً على الراغبين بالتقدم للقضاء الشرعي الجعفري أن يخضعوا للدراسة فيه، و لا يتم قبول أي من المرشحين للقضاء ما لم ينجز الدراسة التي تخوّله الوصول لهذا الموقع.

و يكون المعهد نتيجة تعاون بين المجلس الشّيعيّ و المحاكم الشرعية ، على أن تكون الدّراسة مجانية، و يغطي نفقاتها المجلس الشيعي، و ينبغي الإستفادة من كبار القضاة الذين خبروا هذه المؤسسات لعشرات السنين، لا سيما مَن تقاعد منهم و ما زالت همته جيدة..

الثاني : استحداث مجلس للحكام الشرعيين :

يختلف الفقه الإسلامي الشيعي عن سواه – من فقه المذاهب الاسلامية – بإعطاء صلاحيات معينة ل ( العالم المجتهد ) أو ما يسمى ( الحاكم الشرعي ) ، و لكون قضاة الشرع الشيعة ليسوا من العلماء المجتهدين فينبغي إستحداث إطار يجمع العلماء المجتهدين، على أن يكون لهذا الإطار أنظمته الخاصة بالتنسيق و التعاون مع المحاكم الشرعية، و يكون رئيس المحاكم رئيسا حكميا لهذا الإطار، و تكون مهامه محصورة في القضايا التي هي من مختصات الحاكم الشرعي فقط.
و يمكن تأمين مصاريف هذا الإطار من صندوق تعاضد القضاة، أو تأمين موازنة خاصة من السلطات الرسمية، أو من المجلس الشيعي.

و أما عضوية هذا الإطار فتنحضر في العلماء المجتهدين فقط، بحيث يكون لكل عالم مجتهد الحق في العضوية.

و تصبح أحكام هذا الإطار ملزمة، و تعتبر كسلطة أعلى، لاسيما في مسألة طلاق الحاكم الشرعي التي تشكل إشكالية أساسية عند الشيعة.

الثالث : اقفال المكاتب التي تتعدى على وظيفة القضاء :

مع غياب المؤسسة الفاعلة و القوية، و في ظل عدم وجود منهجية واضحة في إدارة الشأن الديني الشيعي؛ فقد نشأت بعض المكاتب غير ذات الصلاحية القانونية ، و قد أخذت هذه المكاتب التعدي على مهام و صلاحيات القضاء الشرعي الجعفري ، و إذا كنا نفهم تعدي مكتب السيد علي فضل الله على صلاحية القضاء الشرعي، لكن لا يمكن فهم زج المجلس الشيعي نفسه في هذا المجال !! فلقد كان المفترض به المحافظة على سلطة المحاكم الشرعية، و السعي لتطوير حضورها و تعزيزها.. لا العمل على قضمها و إضعافها !!

و إذا تم العمل بمقترحنا في البند السابق، فحينها يجب المبادرة لإقفال المكاتب الشرعية في المجلس الشيعي و مكتب السيد علي فضل الله ، و مكتب الشيخ عفيف النابلسي، و أما المكتب الشرعي للسيد علي الخامنئي فالظاهر أنه محصور بالمحازبين لديهم فقط دون سواهم !

الرابع : الاستفادة من تنوع الآراء الفقهية :

الكثير من الأحكام القضائية تعبر عن وجهة نظر إجتهادية، فضلا عن كون العديد من الأحكام الفقهية هي موضع خلاف بين كبار مراجع الدين العظام، و منه يعرف أن تطوير بعض الأحكام بما ينسجم مع واقعنا اللبناني و ظروفنا الإجتماعية؛ هو ما لا يتعارض مع ثوابت الدين و ضروراته.. فضلا عن أهمية أخذ تعدد الآراء بجانبه الإيجابي، مع ضرورة الإستفادة من مختلف الفتاوى، و عدم التحيز لاتجاه واحد..

و عليه، فينبغي انكباب نخبة من قضاتنا الأعلام لإجراء تحديثات على نمط عمل السلك القضائي، و على بعض الأحكام ، بما لا يمس الثوابت .

الخامس : لجنة تحديث القوانين الشرعية:

يتقاعد قضاة الشرع في الثامنة و الستين من العمر ، حيث يكون الواحد منهم قد راكم خبرات لفترة زمنية مديدة .. و بعد ذلك يذهب القضاة لبيوتهم، دون الاستفادة من تجاربهم و خبراتهم.

طبعا العديد من القضاة قد يرغبون بالراحة، و بعدم القيام بأي عمل في هذا المضمار، حيث يكونون قد أمضوا فترات زمنية طويلة في العمل، أو أن صحتهم لا تساعدهم؛ لكن هناك الكثير من القضاة الذين يملكون الصحة و الهمة و القابلية، و يكون عندهم الإندفاع لتقديم خبراتهم و خلاصة تجاربهم.. فهذا النوع يمكن استثماره في إنشاء لجنة لتحديث القوانين و الأحكام، أو ما شاكل .. ينحصر نطاق عملها في المساحات التي يسمح فيها بالإجتهاد، دون الثوابت و المسلمات.

الشيخ محمد علي الحاج العاملي

اخترنا لك