السادسة والنصف صباحاً… يقف أبو فؤاد بـ”روب البيجاما” عند أول الشارع، بيدِه اليمنى يُمسك يدَ وحيدِه، وباليسرى حقيبتَه المدرسية، ينتظران وصولَ الباص.
إذ يحرَص أبو فؤاد على أن يوصل بيدِه الحقيبةَ نظراً لوزنها، خصوصاً أنّ فؤاد أتى بعد “ألف ندر وندر”.
وكان يستغرب الأب وزنَ الحقيبة: “يا بابا شو حاطّين بالشنطة، أوف! يا بابا طالعين ع نازا بالكتُب!”.
فيُجيبه فؤاد: “الـ Miss بتِزعل”.
فيقاطعه الوالد “لا كلّو ولا تِزعل!”.
كان يعود أبو فؤاد أدراجه مطمئنّاً…
إلى أن حلّت المصيبة وبدأ يشكو ابنُه من ألمٍ شديد في ظهره، وبعد التقصّي تبيّن للوالد أنّ وحيدَه يحمل حقيبته إلى الصفّ في الطابق الرابع يومياً!قصاص، أعمال شاقة، عقاب…
بهذه الكلمات يمكن اختصار العلاقة بين معظم التلاميذ وحقائبهم المدرسية التي يتكبّدون عناءَ حملِها في أول 15 سنة من مرحلتهم التعليمية، حتى إنّ بعضهم ذهبَ بعيداً ليسأل: “لشو بعدنا منِحملا!”.
ناهيك عن أنّ عبارة “نسيت كتابي بالبيت”، و”نسيت الأجندا بالصف”، هي الأكثر تكراراً طوال العام الدراسي. فيما اضطرّ بعض الأمّهات لشراء أكثر من نسخة لكتبِ أولادهم، على اعتبار: “واحد بيتركو بالطبقة وواحد منِدرس فيه بالبيت، لأنّو كتير تقيل”.
50 مدرسة من أصل 1602!
في جولة قامت بها “الجمهورية” على عدد من المدارس الخاصة، يتبيَّن أنّ معظمها لا يزال يعتمد على الكتاب الورقي، ولا أثر لوسائل التكنولوجيا الحديثة في نظامها التعليمي أو للإلكترونيات وللأساليب التفاعلية.
تَكرّر المشهد عينُه من مدرسة إلى أخرى، أستاذ على اللوح، تلامذة يدوّنون، مقاعد متلاصقة، حقائب الظهر على الأرض تَعوق عملية التنقّل.
يبلغ عدد المدارس الخاصة في لبنان “1602 مدرسة منتشرة على كلّ الأراضي اللبنانية، أقلّ من 50 واحدة منها تعتمد التعليم الإلكتروني”، بحسب ما أكّده رئيس مصلحة التعليم الخاص في وزارة التربية عماد الأشقر لـ”الجمهورية”.
ومِن بين هذه المدارس التي تخلّت إلى حدّ كبير عن الكتاب الورقي، المدرسة “اللبنانية الأوروبية” في منطقة دوحة الشويفات. قصَدنا تلك المدرسة، حيث كان في استقبالنا رئيسها الأستاذ عدنان لاوند.
مِن الورقي… إلى الإلكتروني
لابتوب وحقيبة صغيرة تحتوي دفتراً أو دفترين، هذا كلّ ما يحمله التلاميذ معهم في تلك المدرسة يومياً.
كيف تمّ الانتقال من الكتب الورقية إلى الإلكترونية؟
يوضح لاوند لـ”الجمهورية”: “بدايةً كنّا نُدرّس بالشكل المتعارف عليه، ولكن مع التطوّر التكنولوجي رغبنا في تطوير نهج عملنا وبرامجنا التعليمية، بما يتلاءم مع ما هو حديث في عالم التربية والتعليم عالمياً، ومواكبة للطلّاب وتحفيزهم، ولا سيّما أنّ المجال الإلكتروني والشاشات باتت أشبَه بنمط عيش.
من هنا، بدأت الهيئة التعليمية والإدارة، منذ العام 2010، التفكير جدّياً بالانتقال إلى التعليم الإلكتروني الذي بات منتشراً عالمياً”.
ويتابع: “أيقنّا أنّ الكتاب ليس وحده الأساس في عملية التعلّم، إنّما المعلومة التي فيه وأهمّية الحصول عليها من أكثر من مصدر.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أساتذتنا لم يكونوا يَكتفون بما في الكتاب من معلومات، بل كانوا يتوسّعون، يَجمعون معطيات إضافية لإغناء فكر التلميذ ومساعدته على فهم الدرس، فوجَدنا أنفسَنا أمام الكتاب الخاص بالمادة، بالإضافة إلى ملفّ، وكأنّ الطالب لا يكفيه ما يحمله على ظهره”.
كيف تتمّ العملية؟
لا يدَّعي لاوند أنّ عملية الانتقال سهلة، بل كانت محفوفةً بجملة تحدّيات، فيقول: “على مدى عام من الاجتماعات والدورات المكثّفة وورَشِ العمل، فكّرنا في الأساليب التطويرية التي يمكن اتّباعها كوسيلة تعليمية حديثة تضمّ المعلومات المفروضة في المنهج الرسمي من الدولة بالإضافة إلى المعلومات التي نرغب في إغناء الطالب بها”.
ويضيف: “لم يكن طموحنا فقط الانتقال إلى نسخة مطابقة عن الكتاب الورقي، إنّما أرَدنا تقديمَ أوسعِ ما يمكن من مصادر معلومات، لذا رفضنا ما طُرح علينا من أقراص مدمجة مرفقة مع الكتاب الورقي”.
ويفنّد لاوند المراحل: “عام 2011، تبلوَرت الصورة، بدأنا بخطوات تدريجية، لجأتُ إلى عدد من دور النشر التي تعاونت معي.
أولاً، أخذتُ نسخة pdf من الكتاب لكلّ مادة على قرص مدمج.
ثانياً، يبحث كلّ أستاذ بحسب مادته عن مصادر مرادفة لمصادر متوافرة في كتاب مادته، من خبر، صورة، فيديو، أسئلة شائعة وأجوبة …
ثالثاً، نُضمّن الكتاب المعلومات الأوسع التي جمّعها الأستاذ، وهنا مُهمّة التقنيّين والمهندسين في جَمع الكتاب وما أضيف من معلومات بشكل ملفّ خاص.
رابعاً، أي المرحلة الاخيرة، يُعطى التلميذ النسخة النهائية من كتبِه بشكل ملفّ إلكتروني، على نحو يتصفّح كتاب كلّ مادة، يضغط أو يسَطّر على أيّ معلومة يريد التوسّع بها، وذلك من دون الاستعانة بالإنترنت لأنّنا زوّدناه بالمعلومات الأكاديمية التي من المفترض معرفتُها”.
كيف يُشغّل التلميذ الملف؟ يُجيب لاوند: “تُقدّم المدرسة لكلّ تلميذ “لابتوب” خاص به يتضمّن برنامجَه الدراسي وموادّ صفِّه، يبقى “اللابتوب” معه طوال العام، يُجري عليه واجباته اليومية، وغيرَها من القضايا”.
ويضيف: “لا شكّ في أنّ بعض الامتحانات نجريها ضمن مسابقات على نحو عادي (الورقة والقلم)، ولا سيّما أنّ طلّابنا يتقدّمون إلى الامتحانات الرسمية في المتوسطة والثانوية”.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التعليم الإلكتروني يَستثني في هذه المدرسة مرحلتَي الروضة والابتدائي “نظراً لأهمّية أن يكتسب التلميذ في الصِغر مهارات وتقنيات محدّدة لا مفرَّ منها”، على حدّ تعبير لاوند.
رغم أنّ فكرة اعتماد اللابتوب أراحت الأهل من الهرولة من مكتبة إلى أخرى لتأمين لائحة الكتب، لكنّها لم تُسقِط عن كاهلهم كلفتَها المادية، فيقول لاوند: “نأخذ من التلاميذ مبلغاً مقطوعاً كلائحة الكتب الإلكترونية، بين الـ300 و400 دولار”.
وداعاً للكتب في “الكاثوليكية”؟
أمّا بالنسبة إلى المدارس الكاثوليكية، فقد تواصلت “الجمهورية” مع عيّنةٍ مِن الأهل والتلاميذ، سائلةً عن وزن حقائبهم المدرسية، ومن الأجوبة التي تلقّيناها: “كتاب الرياضيات بمفرده يتجاوز الكيلو ونص، والأدب الفرنسي 2 كيلو”، “حقيبتي 20 كيلو”، “إذا بدّي آخُد كلّ كتُب البرنامج ليوم الثلثاء وزنا 30 كيلو”…. وللمفارقة أنّ أكثرَ من والدة اشتكَت من تمزّقِ حقيبة وَلدها واضطرارها لتغييرها قبل منتصف العام نظراً لوزنها.
لا يُنكر الأمين العام للمدارس الكاثوليكية الأب بطرس عازار “أنّ الحقيبة المدرسية مشكلة قديمة جديدة، يعاني منها ليس فقط تلامذة لبنان إنّما معظم البلدان”.
ويقول لـ”الجمهورية”: “صحيح أنّ بعض المدارس الأجنبية بادرَت لاستبدال الحقيبة المدرسية بالألواح الذكية، إلّا أنّها لم تتخلَّ عن الكتاب وفقَ صيغة محدّدة”.
ويضيف: “نحاول في لبنان البحثَ عن حلّ للتخفيف عن كاهل التلميذ من دون التخلّي عن الكتاب، لأنه في نظرنا يبقى ضرورةً ماسة رغم ما نعيشه من تقدُّمٍ وتطوّر”.
هل المدارس الكاثوليكية مستعدّة للانتقال إلى التعليم الإلكتروني؟
يجيب عازار: “سبقَ وعَقدنا مؤتمراً حول التعاطي مع العالم الرقمي بمسؤولية وعِلم، وشفافية، ومدارسُنا ليست بعيدة أبداً عن التعاطي مع ما يُسمّى المناهج التفاعلية (الرقمية)، ولكنّ مؤسساتنا التربوية تعمل كالجيش، تُهيّئ الأرضية قبل دخولها أيَّ شيء جديد، نُحضّر الأهل، الإدارات، الطلّاب، الأساتذة، المجتمع… علماً أنّ تلامذتَنا متقدّمون علينا بالتكنولوجيا، ولكن علينا أن نكون إلى جانبهم، نَحميهم ونساعدهم”.
ويضيف: “قد نبدأ بدَمجِ الكتاب الورقي مع نسخة إلكترونية، ولكنّ المسألة تحتاج إلى تمحّص، ولا تتحمّل أيّ “دعسة ناقصة” قد تسيء إلى المستوى، لا يجوز التلاعب بالأجيال”، لافتاً “إلى أنّ عدداً من المدارس بدأ يُدخِل الألواح الذكية إلى صفوفه، بمبادرة فردية”.
ومِن عازار نصيحة للتلاميذ: “أعطوا دقيقةً لترتيب حقائبكم بحسب برنامجكم اليومي لتخفّفوا عن كاهلكم”. ويضيف: “كتربويّين سنتعاون مع دور النشر لحلّ مشكلة الكتب الضخمة، كتوفيرها ضمن جزءَين”.
مخاوف دور النشر
إذا كان التردّد سِمة موقفِ أصحاب المدارس في الانتقال إلى التعليم الإلكتروني، فإنّ أصحاب دور النشر يُجمعون على أنّ تداعيات التخلّي عن الكتاب الورقي أكثر من حسناته.
في هذا المجال، لا يُنكر نقيب الناشرين المدرسيّين ورئيس اللجنة العربية للملكية الفكرية لاتّحاد الناشرين العرب جوزف صادر، “أنّه عاجلاً أو آجلاً ستَشهد المناهج تحديثاً، كذلك مضامينُ الكتب والأساليب التعليمية…. لكنّ هذا لا يعني إلغاءَ الكتاب ولكن تعديل مضمونه وحجمه، خصوصاً أنّ عدداً محدوداً من المدارس يتمكّن من إنهاء الكتاب بكامله”.
ويقول لـ”الجمهورية”: “للأسف تطوّرنا كدور نشر أسرع من المنهج اللبناني، عدد كبير من كتبِنا بات يتضمّن برامج تفاعلية تطبيقية، بعض الشروحات، وغيرها من وحي مضمون الكتاب مرفَقة على قرص مدمج في آخر الكتاب”.
ويضيف كمَن يرى في اعتماد التعليم الالكتروني “سابع المستحيلات”، قائلاً: “لا نشّكك بتاتاً في قدرة المدارس التكيّف سريعاً مع التعليم الإلكتروني، ولكنّ المتأخّر الأول هو لبنان بخدماته وشبكاته المترهّلة… لذا لسنا مؤهّلين بعد لا من حيث مستوى الكهرباء، أو الإنترنت، وغيرها من العوامل”.
تداعيات صحّية… ما الحلّ؟
يَصعب حسمُ النقاش حول الكتاب الورقي والإلكتروني… ولكن ما هو محسوم أنّه مع منتصف العام الدراسي، تبدأ معاناة التلاميذ مع آلام في الظهر.
في هذا السياق، ينصَح الدكتور عامر عبدالله، وهو أختصاصي في جراحة العظم والمفاصل وأستاذ جامعي، بأن “لا يتجاوز وزن الحقيبة الـ 10 أو15 في المئة من وزن التلميذ”.
ويوضح لـ”الجمهورية”: “تُعتبَر المرحلة المدرسية دقيقة في حياة الفرد ونموِّه وتحديداً على مستوى العظام. تزداد الأنثى طولاً بين عمر 11 و13 سنة، فيما الذكر بين 13 و15 سنة، في هذه المرحلة يَحدث النموّ في العمود الفقري، أكثر من القَدمين، الذي لا يكون مهيَّأً للتعرّض لوزن زائد.
لذا مع حملِ الحقيبة الثقيلة مراراً تبدأ معاناة التلميذ مع ألمٍ في أسفلِ الظهر أو بين كتفَيه”.
في هذا السياق، يَلفت عبدالله إلى أن ليس كلّ وجع في الظهر مردُّه الحقيبة، “مِن الخطأ التسرّع والتشخيص اعتباطياً، فهناك عوامل أخرى لا تَقلّ أهمّيةً، منها الجلوس لساعات طويلة، بالإضافة إلى عوامل وراثية، أو حالات مرَضية كوجود ورم، إلتهاب، سكوليوز (إلتواء في العامود الفقري)”.
ويبقى السؤال، ما هي الطريقة الفضلى لحملِ الحقيبة؟ يجيب عبدالله: “بدايةً لا ننصح أبداً في حملِ الحقيبة على كتِف واحد، إنّما على الظهر بطريقة يُوزّع وزن الشنطة بين الكتفين، وألّا تكون بمستوى الحوض إنّما أعلى، على نحو يُوزَّع وزنُها بين كتفيه، لذا على الطلّاب شدُّ أحزمةِ الحقيبة، فإذا أرخوها زاد ثقلها”.
ويشدّد عبدالله على أهمّية توزيع الكتب في الحقيبة، قائلاً: “المبدأ السليم أن توزَّع الكتب على نحو يكون فيه الكتاب الأكثر وزناً أقربَ إلى جسم التلميذ، أي في الناحية التي تلامس الحقيبة ظهر التلميذ”.
ناتالي اقليموس – الجمهورية