كتب أنطوان العويط في صحيفة “الجمهورية”: إنّ الميثاق الأوّل والأساسيّ للجماعات اللبنانيّة تمثّل في عيش القيم والمبادئ التي طبعت جبل لبنان التاريخيّ وإنسانه، وانتقلت من الجبل إلى المدن والمناطق الساحليّة، وهو شأنٌ سابق للدول وللسياسة بمفهومها الحديث.
هكذا تطبّع الموارنة الذين يحتفلون اليوم بعيد شفيعهم مارون، ومعهم أقرانهم من اللبنانيين، مستلهمين خطى أسلافهم الذين ثبتوا في وجه التحدّيات، وعرفوا كيف يخرجون منها راسخين في إيمانهم، أشدّاء في الدفاع عن معتقداتهم وخصوصيّاتهم، واثقين من مستقبلهم.
إنّ الانتقال من حالة التفكّك والتقاتل، هو بمثابة انتقال من الموت إلى الحياة، وهذا ما يتطلّع إليه الموارنة اليوم في دولة مدنيّة تحترم الأديان عقيدة وممارسة.
إنّ ما يريده الموارنة بات واضحاً وصريحاً. هم ينشدون في ممارسة المسيحيين واللبنانيين للشأن العام، التحلّي بروح الخدمة المتجرّدة والسخيّة والمقرونة بالمناقبيّة وبالكفاءة وبالفعالية.
وهم يتطلعون إلى مَن يحملون ميزة الشهادة للقيم الإنسانيّة، ولا سيّما منها بساطة العيش والحبّ التفضيليّ للفقراء وروح الغيرة والتضحية، ومَن يعتمدون التضامن كنهج ووسيلة، ومَن يلتزمون قضية السلام القائم على احترام حقوق الإنسان.
يحزّ هنا في قلوب الموارنة أنّ المصالحة والغفران لم يكتملا على كلّ المستويات: الروحيّة مع الذات، ومع الله، ومع الآخر، ومع الوطن. إنّ المصالحة والغفران لا يزالان غير كاملين على الصعيدين المسيحيّ والوطنيّ.
وما يريده الموارنة في بعض ما يعتري الشأن الزمنيّ من شؤون وطنيّة، يتلخّص في اعتماد آليات تحول دون تعطيل المؤسّسات الدستوريّة، والابتعاد من سياسة المحاور الإقليميّة والدوليّة، وتنفيذ ما نصّت عليه وثيقة الوفاق الوطني من خلال تحقيق اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة، في سبيل تأمين فرصة جدّية لبناء الوحدة الوطنيّة وتأمين الاستقرار عبر تخفيف حدّة الصراع على السلطة المركزيّة، وتعزيز الإنماء المتوازن. ما يريده الموارنة هو عدم تكبيل المؤسّسات الدستوريّة ورهنها بخيارات الأفرقاء الذين يدّعي كلٌّ منهم أنّ خياراته هي المنجّية.
فليس من المنطق بمكان أن يتغنّى اللبنانيّون بأنّ لديهم ديموقراطيّة ودستوراً ومؤسّسات، وهم في معظمهم يناقضون الديموقراطيّة لصالح الاستقواء أو الإلغاء، ويعلّقون الدستور رهناً بحسابات ذاتيّة أو فئويّة، ويعطلّون المؤسّسات باستغلالها كلّ على هواه.
وقد طغى على الحياة السياسيّة عندنا استغلال مبرح للديموقراطيّة التوافقيّة، ما أدّى إلى عجز اللبنانيين عن إيجاد الحلول داخلياً، وحاجتهم الدائمة إلى ناظم خارجي يبدع لهم التسويات.
ما يريده الموارنة هو الالتزام الجدّي ببناء الدولة العادلة والقادرة والمنتجة من خلال حفظ السيادة، وحصرّية القوّة العسكريّة في يد الشرعيّة، ومن خلال حماية استقلاليّة القضاء وحرمته، ودعم هيئات الرقابة وتفعيلها، وفرض سلطة القانون على الجميع من دون أيّ استثناء أو تمييز؛ والقضاء على المحسوبيات والفساد، ومن خلال تعزيز الاقتصاد وإيجاد فرص عمل للمواطنين.
ما يريده الموارنة هو احترام أحكام الدستور كافة بلا انتقائية، والتزام سياسة خارجيّة مستقلّة ونسج علاقات تعاون وصداقة مع كلّ الدول ولا سيما العربية منها، واحترام قرارات الشرعيّة الدوليّة والتزام مواثيق الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، والتأكيد على التمسّك بالمبادئ الكيانيّة المؤسّسة للوطن اللبناني.
ما يريده الموارنة هو انفتاح لبنان على قوّة أبنائه في الانتشار، كامتداد فعلي لثروة لبنان الإنسانيّة والحضاريّة، وشدّ الروابط الوطنيّة معهم في كلّ ما يؤول لصالح حقوقهم المدنيّة والسياسيّة وخيرهم وكرامتهم.
ما يريده الموارنة هو الاهتمام بالشباب الذين هم ثروة البلاد الكبرى والقوة التجديديّة في المجتمع، وتعزيز مساهمة المرأة في المسؤوليات العامة ومشاركتها في الحياة السياسيّة.
وما يريده الموارنة هو إسهام لبنان في عمليّة خروج العالم العربيّ من مخاضه الراهن، بحثاً عن أنظمة سياسيّة معاصرة تليق بإنسانه وبعراقة تراثاته، وتقوّي حضوره الإيجابيّ في عالم اليوم. فلبنان، بحكم أصالة هويّته وفرادة تراثه، قادر على أن يكون شريكاً في صنع الحضارة الإنسانية، وتدعيم الاستقرار والسلام العادل والشامل في المنطقة… مع الإصرار على حلّ أزمة النزوح السوري وعودة آمنة للمشرّدين إلى بلادهم…
والتأكيد على أحقّية القضيّة الفلسطينية، وبالتالي حق الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم، وفي إنشاء دولة خاصة بهم على ترابهم الوطني، وبالتالي رفض لبنان أيّ شكل من أشكال التوطين الفلسطيني على أراضيه، وفقاً لما جاء في مقدمة دستوره.
ما يريده الموارنة هو قانون انتخابيّ نيابيّ جديد، يترجم المشاركة الفاعلة في تأمين المناصفة الفعليّة، والاختيار الحر، والمساءلة والمحاسبة، ويؤمّن التنافس الديموقراطي، وفرص تمثل قوى ثالثة تطلع من حالة لبنانيّة، مجتمعيّة وثقافيّة وأخلاقيّة، عامة، ووطنيّة، وصاحبة برنامج عمل مشترك مدنيّ وديموقراطيّ.
وقد دعت الكنيسة المارونيّة “المجتمع المدنيّ إلى رفض المصير القاتم القائم أمامنا وإلى تظهير طبقة جديدة في المجالات كافة لا سيما السياسيّة منها”.
ويتطلّع الموارنة إلى استكمال تطبيق “اتفاق الطائف”، والنظر في ما يجب إيضاحه أو تفسيره أو تطويره في ضوء التجربة القائمة، لسدّ الثغر الدستوريّة والإجرائيّة في ممارسة الحكم.
إنّ ما يريده الموارنة ختاماً هو وطن يليق باللبنانيين وتاريخهم وقيمهم، يجسّد بالفعل تلك التجربة الإنسانيّة الفريدة. وهذه مسؤولية تاريخية ملقاة على عاتق الجماعات اللبنانيّة، وعلى عاتق الموارنة خصوصاً.
إنّ عودة الموارنة إلى أصالتهم هي المدخل إلى عودة الآخرين إلى أصالتهم أيضاً. وفي وحدة الموارنة باب أمل حقيقيّ لحوار حقيقيّ مع الآخرين، ليصبح التفاهم على خدمة لبنان أمراً ممكناً.
وهذه هي رسالة لبنان في إشاعة الاستقرار والعدالة والسلام.
وهي رسالته في ذاته، ولذاته، قبل أن تكون رسالته إلى الشرق والغرب معاً، بل إلى العالم أجمع، حيث يتحقّق التلاقي بين إرث الديانات السماوية وبين قيم التجديد والانفتاح والحداثة، وحيث لا مفرّ من أن يصبح لبنان ملتقىً دولياً للأمم المتحدة للحوار بين الثقافات وللتفاعل الحضاريّ بين الجماعات.
أنطوان العويط