تجتاح لبنان اليوم موجة اعتبار المحارق من كل حجم ونوع أنها “الترياق” الشافي لأزمة النفايات، المستمرة والمتمادية منذ سنوات في لبنان.
ربما من المفيد تذكير الجميع، ولا سيما في الوزارات والإدارات المعنية، وفي مجلس الوزراء أيضا، أن السبب الحقيقي لأزمة النفايات التي تضرب لبنان، بقرفها ومخاطرها وتأثيراتها الضارة على البيئة والصحة البشرية والمال العام، يكمن في الخيارات الخاطئة، وفي ما نسميه “الإدارة السيئة للنفايات”، التي قررتها الحكومات المتعاقبة، والتي تجلَّت عبر السنين بالإنحباس في المثلث الجهنمي، المتمثل بالطمر والترحيل والحرق.
إن الإصرار على الإمتناع عن اعتماد “الإدارة المتكاملة” كسياسة رسمية للدولة، يجري تطبيقها لامركزيا، بالإلتزام الكامل والواعي بمبدأ استرداد القيمة المختزنة في النفايات، عبر أفضل تطبيقات الفرز، إن من المصدر، و/أو في مراكز مجهزة بأحدث تقنيات الفرز الآلي عالي التنظيم، وعبر تدوير كل المكوِّنات ذات القيمة، والقابلة للتدوير من موارد معدنية وبلاستيكية وورقية وزجاجية، بالإضافة إلى معالجة كامل كمية المكوِّنات العضوية، عبر اعتماد تقنيات حديثة إن في تسبيخها الهوائي، الذي ينتج الكومبوست عالي الجودة، والذي يستورده سوقنا الوطني من الخارج، أو في هضمها اللَّاهوائي لإنتاج البيوغاز، الغني بالميثان، لتوليد الطاقة.
ومن جهة أخرى، على العمل الدؤوب والمرتكز على العلم ومنجزاته في تحويل وتصنيع المكونات المتبقية عن عمليات الإسترداد عالية الفعالية.
إن حسن تنظيم هذه العمليات، وحسن تنظيم تتابعها وإدارتها وفق أعلى معايير الفعالية والجودة، من شأنه أن يؤمِّن سيطرة كاملة على ملف النفايات، ورفده بسياسات شاملة وبعيدة المدى تتعلق بتخفيف كميات النفايات المتولدة، عبر استخدام أدوات إقتصادية ومالية وقانونية وتثقيفية وتربوية.
إن حرق النفايات، الذي يُروَّج له بقوة الآن في لبنان، هو وسيلة مُغرِقة في القِدَم، للتخلص من الكميات الكبيرة من خلائط النفايات، التي رافقت تقدُّم عصر الثورة الصناعية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حيث ظهرت المحارق لسببين رئيسين.
أولهما، تخفيف حجم الكتلة الهائلة من خلائط النفايات غير المتجانسة، الذي كان مصيره الذهاب إلى المكبَّات والمطامر. والثاني، هو الحدُّ من التأثيرات الخطيرة لعمليات تعفُّن المواد العضوية والتخلص منها.
في تلك الحقبة من الزمن، لم تكن مطروحة بعد مسألة إعادة تدوير المواد الصلبة وتسبيخ المواد العضوية، وغيرها من الطرق السليمة بيئيا للتعامل مع النفايات، ولا سيَّما الإستعمالات الصديقة للبيئة لمعظم أو كل مكوِّنات النفايات.
كانت المحارق تستقبل كل هذا الخليط غير المتجانس من كتل النفايات، ودون إخضاعه لأي عمليات فصل أو معالجة مسبقة، خليط من مواد عالية التنوع ومن مصادر مختلفة.
لكل هذه الأسباب كانت كمية ونوع المُلوِّثات المُتولِّدة عن المحارق، من غازات وجزيئات ورماد من كل القياسات والأحجام، جسيمة الخطورة على البيئة، وخصوصا على الصحة البشرية، مسبِّبةً مستوياتٍ خطيرةً جدا من التلوث بالغازات والجزيئات عالية السمِّية.
خلال القرن العشرين، شهدت المحارق تطورا كبيرا في تقنياتها، وأصبحت مجمَّعات تكنولوجية أكثر تقدما وتعقيدا، ولكن طبيعتها الأساسية بقيت على حالها، وبقي هدف المحرقة نفسه، المتمثل بتخفيف حجم النفايات عبر عمليات الأكسدة للحرق.
بعد ذلك، جرى إضافة وحدات للإستفادة من الطاقة الحرارية المرافقة لعمليات الحرق، بتحويلها إلى أشكال قابلة للإستخدام من الطاقة، مثل المياه الساخنة في المراحل الأولى، وثم لاحقا، إنتاج الطاقة الكهربائية عبر تشغيل توربينات على البخار شبيهة بالمراكز الحرارية لتوليد الطاقة الكهربائية.
في وقتنا الحاضر، تشكِّل المحارق الحديثة، التي لا تزال قيد التشغيل في العديد من البلدان المتقدمة، مجمَّعات واسعة وكبيرة التعقيد، تحتل تجهيزات مكافحة التلوُّث، وتخفيف الإنبعاثات السامة في الهواء الجوي، الحيز الأكبر من مجمَّع المحرقة.
وكذلك تستهلك هذه التجهيزات، التي تمثِّل منظومات متتالية ومعقدة لالتقاط كل أنواع الملوِّثات الجزيئية، ومعالجة كل أنواع الغازات، وتعديلها وتحويلها كيميائيا لمركَّبات أقلُّ سمِّية، أو لالتقاطها بالإدمصاص Adsorption على سطح موادِّ ماصَّة ولاقطة، النسبة الأكبر من موازنات كلفة إنشاء المحرقة، وكذلك من كلفة تشغيلها وصيانتها.
ولهذا السبب نرى أن معظم المحارق العاملة في البلدان النامية، وفي البلدان التي تعاني من ضعف في تطبيق القوانين والتشريعات البيئية، وهزال في القدرة على الرقابة الدقيقة واحترام المعايير، لا تختلف عن تلك المحارق، التي كانت تعمل في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
في المحارق الحديثة، التي لا تزال تعمل في البلدان عالية التقدم التكنولوجي، تخضع النفايات قبل نقلها إلى الحرق، لعمليات ما قبل المعالجة، تتضمن عمليات فصلٍ كامل للمواد القابلة لإعادة التدوير، وفصلِ كل المكوِّنات العضوية القابلة للتسبيخ أو للهضم اللَّاهوائي لتوليد البيوغاز الغني بالميثان.
وتخضع أيضا لعملية غربلة دقيقة للكشف عن وجود أي موادٍ سامَّة وخطيرة وقابلة للإنفجار. تعتمد دقة وجودة عمليات ما قبل المعالجة على بناء وخصائص المحرقة المحدَّدة، وفي كثير من الحالات يتم حذفها بالكامل.
هذا ما يحصل في بعض البلدان عالية التقدم التكنولوجي، حيث يتسبب ذلك بوقوع العديد من الحوادث، التي ينتج عنها ضحايا بشرية وخسائر مادية كبيرة.
عدا عن ما ينتج عن تلك الحوادث من إطلاق لكميات هائلة من الملوِّثات الغازية والجزيئية عالية السمية والخطورة في الهواء الجوي، مما يهدِّد صحة الناس، القاطنين في المناطق القريبة والبعيدة عن المحرقة باتجاه الريح السائد، بأكبر المخاطر. تفكَّروا أيها اللبنانيون، في كل المناطق والبلدات والمدن، وكذلك في العاصمة بيروت، حيث يَعِدُكم أولياء السلطة عندنا، على كل المستويات، بـ”ترياق” المحارق القاتل، ولو ببطء أحياناً.
د. ناجي قديح
http://greenarea.me