“لدي اليوم رسالة إلى الأتراك.
إن حكومتكم تقوم بخداعكم بجعلكم تصدقون أنكم ستكونون عضوًا في الاتحاد الأوروبي يومًا ما.
انسوا هذا! أنتم لستم ولن تكونوا أوروبيين أبدًا.
دولة إسلامية مثل تركيا لا يمكن أن تكون جزءًا من أوروبا.
إن كل القيم التي تدافع عنها أوروبا مثل الحرية، الديمقراطية، حقوق الإنسان غير منسجمة مع الإسلام.
ولا نريد أيضًا أن يقوم الأتراك بالسفر إلى أوروبا دون تأشيرة.
الشعب لن يصوت لحكومات تقبل بهذا وسوف يقوم بعزلها من وظائفها.
تركيا صوتت لأردوغان الإسلامي الخطير الذي يحمل راية الإسلام.
لا نريد إسلامًا أكثر نريده أن يقل.
لذلك ابتعدي عنا يا تركيا فأنتِ غير مرحب بك هنا”.
بهذه الكلمات منذ أكثر من عام خرج السياسي الهولندي اليميني المتطرف خِيرت فيلدرز للحديث عن تركيا، وقد كان يمكن القول حينها بأن فيلدرز لا يمثل المزاج الهولندي العام، خاصة أنه اشتهر بمواقفه العنصرية من العرب عمومًا وخاصة المغاربة في هولندا، وأضاف إلى معركته الأتراك لاحقًا.
ولكن الواقع يقول إن حزبه – حزب من أجل الحرية – تزداد شعبيته يومًا بعد يوم وفق استطلاعات الرأي التي تؤكد أنه سيكون الحزب الأول في البلاد، وذلك بحسب استطلاع أخير أجري بعد إدانة فيلدرز بالتمييز.
إذ أظهر الاستطلاع الأسبوعي لمعهد موريس دي هوند الذي نشرت نتائجه في شهر كانون الأول من العام 2016، أنه إذا جرت الانتخابات التشريعية المقررة في منتصف هذا الشهر، فإن حزب فيلدرز سيصبح الحزب السياسي الأول في البلاد مع 36 مقعدًا من أصل 150 في البرلمان الهولندي.
وهو ما يعني أن صعود فيلدرز امتداد لحالة الشعبوية اليمينية التي تجتاح أوروبا، وتنتظر الانتخابات فقط لتعبر عن نفسها، لذا لا يمكن تجاهل تصريحات قديمة كهذه في وقائع الاضطراب بين تركيا وهولندا حاليًا.
ماذا حدث؟
كان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قد أعلن عزمه التوجه إلى هولندا للقاء الجالية التركية ضمن جولة دعائية للتعديلات الدستورية التركية المطروحة للاستفتاء منتصف شهر نيسان المقبل، ولكن المفاجأة كانت أن الحكومة الهولندية أعلنت أن وزير الخارجية التركي غير مرحب به في هذه الجولة، لكن جاويش أوغلو أكد على ذهابه رغم ذلك وهدد برد “قاسٍ جدًا” في حال منعه.
وبالفعل منعت هولندا هبوط طائرة جاويش أوغلو في مطار روتردام، وهو ما استدعى ردًا رسميًا تركيًا جاء على لسان الرئيس التركي أرودغان واصفًا الهولنديين بأنهم لا يتقنون “السياسة والدبلوماسية”، مهددًا بعقوبات واسعة.
وعلى إثر ذلك استدعت الخارجية التركية القائم بالأعمال الهولندي واحتجت رسميًا على سوء التعامل مع وزير الخارجية التركي، ثم صعدت الخارجية التركية من حدة موقفها تجاه هولندا، وطالبت السفير الهولندي الذي كان يقضي عطلة في بلاده بعدم الرجوع إلى أنقرة مجددًا.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ قامت السلطات الهولندية بإيقاف وزيرة الأسرة التركية فاطمة قايا، والتي أعلنت عزمها التوجه نحو هولندا من خلال الحدود الألمانية متوجهة إلى قنصلية بلادها في روتردام، وقد تم منعها وإرغامها على العودة من خلال الحدود مرة أخرى.
فيما اندلعت تظاهرات نظمها مؤيدون للحكومة التركية في هولندا قرب القنصلية في روتردام فرقها الأمن الهولندي بالقوة، وتظاهرات أخرى تركية أمام القنصلية الهولندية في إسطنبول، والسفارة الهولندية في أنقرة، وقد انتشرت قوات من الشرطة التركية في محيط السفارة والقنصلية الهولندية، ومنعت الخروج والدخول إليها.
توترات قديمة
العلاقات التركية الأوروبية تشهد خلافات حادة في السنوات الأخيرة على خلفية أزمة اللاجئين السوريين، والتي ألقت بظلالها على مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إذ تعثرت مرارًا بسبب اتهام الأوروبيين لتركيا بابتزازهم خلال الأزمة، بعدما وقعت ألمانيا اتفاقًا مع تركيا يقضي بمنع تدفق المهاجرين إلى أوروبا مقابل حزمة مساعدات وتقدم في مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد.
ومنذ ذلك الحين انطلقت وسائل الإعلام الأوروبية في مهاجمة تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان ووصفه تارة بـ”الإسلامي المتطرف” وتارة أخرى بـ”الديكتاتور”، مع التركيز على حالة حقوق الإنسان في تركيا وانتقادها بشكل دوري، وهو ما عاد بتصريحات مضادة حادة من الجانب التركي تجاه أوروبا تتهمها بالتصيد.
تصاعدت ذورة الاتهامات التركية – الأوروبية مع لحظة المحاولة الانقلابية في 15 من تموز من العام الماضي، حيث وصفت تركيا ردود الفعل الأوروبية على هذه المحاولة بـ”المخزية”، كما اتهمت عواصم أوروبية بدعم أنصار جماعة فتح الله غولن أو ما يُعرف داخليًا بـ”الكيان الموازي” المتهم بتدبير المحاولة الانقلابية.
واشتعلت هذه المعارك مع ألمانيا والنمسا تحديدًا، في ظل السماح لنشاط حزب العمال الكردستاني المصنف كتنظيم إرهابي في تركيا للعمل بحُرية على الأراضي الأوروبية، في مقابل ما اعتبرته أنقرة تضييقًا على الفعاليات التي تؤيد الحكومة التركية.
وفيما يخص هولندا تحديدًا كانت أولى الدول التي سحبت أجهزة الدفاع الأرض جوية “باتريوت” من تركيا “لعدم حاجة تركيا إلى هذه الأجهزة بعد الآن”، على حد تعبيرهم، وذلك في شهر كانون الثاني من العام 2015، حيث سحبت أجهزتها الموجودة على الحدود التركية، وقامت بتحويلها إلى إسبانيا، وتبعتها ألمانيا والولايات المتحدة في هذا الإجراء.
في حين اعتبر الأتراك أن سحب هذه الأجهزة لم يأت من فراغ بل هناك أسباب سياسية واستراتيجية ورمزية من وراء سحب هذه الأجهزة، والأعذار الرسمية التي تم إعلانها من قبل الحكومات الساحبة للأجهزة محل نقاش ولا تعكس الحقيقة والنية الصادقة من وراء سحب هذه الأجهزة من تركيا في هذا الوقت بالتحديد.
أوروبا تحاول حل أزمتها الشعبوية عبر التصعيد مع تركيا
للإجابة على سؤال أسباب التصعيد الهولندي حاليًا والأوروبي بشكل عام مع تركيا في هذه الأثناء بالتحديد، نجد أن الحالة الشعبوية العامة التي تواجهها أوروبا، من حيث صعود اليمين المتطرف بقوة صاروخية في كل من فرنسا والنمسا وألمانيا وإيطاليا واليونان وأخيرًا هولندا، والذي يلعب على وتر العداء للمهاجرين والتصدي للمسلمين في أوروبا، أصبحت المحرك الرئيسي للحملات ضد تركيا في البلدان المختلفة لكسب ود الناخب الأوروبي في مقابل حملات اليمين المتطرف.
إذ تأتي التوترات بين الحكومة الهولندية وتركيا قبيل الانتخابات البرلمانية في هولندا المقررة في الـ15 من شهر آذار أي قبل 4 أيام فقط، وأخرى رئاسية في فرنسا في الـ23 من نيسان المقبل، وفي الـ24 من شهر أيلول المقبل انتخابات المجلس الفيدرالي في ألمانيا، والقاسم المشترك بين هذه الانتخابات جميعها توقع فوز اليمين العنصري المتطرف.
لذا يبدو أن إظهار العداء لتركيا هو أحد المحاولات الانتخابية للحكومات الأوروبية لكسب ثقة الناخبين المتشبعين بخطابات اليمين الأوروبي المتطرف الصاعد، وسيتبارى الجميع في إظهار هذا العداء بأثواب مختلفة في الفترة القادمة استغلالًا للحظة.
وعلى الجانب الآخر، لن تتوانى الحكومة التركية في استغلال هذا التعنت الأوروبي غير المبرر حاليًا، في الترويج لحملة التعديلات الدستورية التركية، بعد استثارة الحس القومي التركي تجاه هذا العداء الأوروبي، وهو ما قد يكون حاسمًا في نتيجة الاستفتاء القادم.