مع تطوّر العلم السياسي وطريقة إدارة الشؤون العامة، برَزت معالم وقواعد ونُظم عصرية تتماشى مع تطوّر المجتمعات، وقد سمّيت بقواعد الحوكمة Gouvernance.
هي طريقة في المبدأ يجب أن تكون سليمة من الشوائب، وهي قواعد ترعى الشفافية في سيرة القيّمين على الشأن العام، ومسيرته في «الخدمة العامة»، وإذا استعرَضنا ما وصَلت إليه القوانين الدولية ولا سيّما توصيات منظمة التعاون الاقتصادي في أوروبا، لوَجدنا أنّ الشأن العام عندنا لم يزل في مفهومه ومساره يسير وفقَ مفاهيم القرون البائدة، حيث لا قواعد راعية للشفافية، والفساد يترعرع في ظلّ غياب المساءلة والمحاسبة والتقويم العلمي والمحاسبي.
إنّ الوضع اللبناني يعاني من خللٍ جوهري في طريقة الحكم عندنا بعدما عانَينا حروباً مختلفة الألوان والأنواع، حتى أضحت الأزمات الاقتصادية والمالية عنوانَ العقود الماضية تلازُماً مع الأوضاع السياسية المعقّدة والأمنية المهتزّة أحياناً.
الحوكمة غائبة عن نظامنا العام وعن طرقِ إدارة الشؤون العامة والسياسية والاقتصادية، وخصوصاً الاجتماعية والتنموية، إذ نرى موازنةً بأرقام كبيرة بينما أثقال الديون والمعاشات والمخصّصات تأكل حيّزاً كبيراً من هذه الأرقام الكبيرة، وهذا ما لا يتماشى مع أيّ علم ماليّ أو توازن اقتصادي أو اتّزانٍ سياسي في إدارة الشأن العام.
فأولى مبادئ الحوكمة هي الشفافية والارتكاز على أرقام حقيقية وإحصاءات واقعية ورؤية واضحة المعالم، وقبل ذلك على استراتيجية اقتصادية ترسم معالم الخطط لسنوات خمس على الأقلّ، وتستشرف المستقبل وما يمكن أن يحمله من تطوّرات إيجابية أو سلبية.
إنّ قواعد الحوكمة غائبة عندنا يوم نرى موازنات الوزارات توزَّع بشكل غير مرتكز على خطط – برامج بل على طروحات ربّما تكون صحيحة، ولكن العلم المالي العام مهم إذ إنّه لا يحجز نفقة أو يضع موازنة إلّا تحقيقاً لغايات مرسومة وتكويناً لتراكمات ستفيد القطاع العام والمواطنين ولو بَعد فترة من الزمن.
نعم، إنّ الحوكمة غائبة يوم نسمع بقانون انتخاب من دون أن نراه، وتتسارع الأفكار وتتصارع الحصص وندخل المهَل القانونية ولا حلول ترتسم، بل كلام مباح وغير مباح، على أنّ التمديد أصبح واقعاً، ولكنّ الخطير أن يصبح التمديد لتمديدين سابقين بمثابة إقرار عن عجز الموالفة اللبنانية عن صيانة النظام السياسي عبر طرق عصرية لا تستوحي إلّا «قمع» الوكالة التي يَحفظها الدستور والقوانين المرعيّة للمواطنين، وكأنّها حقّهم الوحيد أو شِبه الوحيد المؤثّر ولو نسبياً، والإرادات «العليا» تودّ مصادرته من دون أن تقدّم حلولاً ناجعة أو خططاً مقنعة أو أداءً علمياً تفرضه قواعد الحوكمة السياسية في النظم العصرية.
نحتاج مسؤولين ومواطنين لقراءة توصيات OCDE لمعرفة كيف تُدار القطاعات العامة المنتجة والمخطّطة والمنفّذة، وكيف يفصَل العام عن الخاص وكيف لا تفصّل القوانين على قياس بعض أهل القرار، وكيف لا يصادر الناس في المال والاقتصاد، ثمّ في السياسة والديموقراطية.
د.أنطوان ز.صفير