هَلَ باتَ حتميّاً أن نَنعى إلى الشعب اللبناني “وسيط الجمهورية” قبل ولادته في الواقع، وفي القانون إلى حدّ معيّن؟
وهّلْ كُتب علينا أن نشهد إنشاء بعض المؤسسات الرسميّة بهدف مواكبة مِثال الدولة الحديثة، وأن نشهد، في موازاة ذلك، العمل على إجهاض عملها أو على إضعافها من المؤسسات التي كانت السبب في نشأتها؟
وهل أنّنا في مجتمع يخشى فيه المسؤول المواطن ووعيَهُ ومحاسبتَهُ، أم أنّنا أمام النقيض حيث يخشى المواطنُ المسؤول دون أن يُدرك سبب ذلك؟
وهل أنّ مكافحة الفساد، في مهلةٍ معقولةٍ ومنظورة، هي ممكنة وحاسمة في غمرة التراكمات والذهنيّات والإحصاءات المحبطة والطائفيات وسائر الممارسات، أم أنّها باتت المستحيل الرابع بعد “الغول والعنقاء والخلّ الوفيّ”؟
( في إشارة إلى بيت من الشعر يقول : قد قيلَ إنّ المستحيل ثلاثةٌ – الغولُ والعنقاءُ والخلُّ الوفي )
وهل أن الدولة تنوي بالفعل إيقاظ هذه المؤسسة من رُقادها-أو من رُقاد الدولة نفسها- وإصدار المراسيم التطبيقية التي تجعلها قابلة للتطبيق (على علمي أنّ هذه المراسيم لم تصدر بعد)، وتعيين الوسيط، وإطلاق يده في العمل لمصلحة الجمهورية، وأبنائها الذين لا تزال بقيّة باقية منهم تؤمن بالمستقبل، وبالتصدّي لكلّ خَلَلَ، وبدولة مدنية في البال؟
بعد اثنتي عشرة سنة على صدور قانون “وسيط الجمهورية “، لا يزال الكلام للحبر والورق… فلا من يفكّر بتفعيله، وبتطبيقه. حتّى أنّ المساجلات التي تدور عادةً حول طائفة الشخص المزمع تعيينه لملء المركز غابت كليّاً عن السّاحة. كأنّما أنشأوا المؤسسة –وأعني السلطات بعامة لا أشخاصاً بعينهم- ثمّ ندموا على ما فعلوه، واجتنبوا الكلام عليها وتعمّدوا إهمالها إلى درجة النسيان، فبتنا أمام قانون نافذ وغير منفّذ، وأمام أمنية لم تتحوّل إلى واقع، وأمام طيف وسيط الجمهورية لا أمام شخصه.
لا يتخيلَنَّ أحد أنّ هذا الكلام صادر عن مواطن، أو عن قانوني أصيب بالتشاؤم. إنّه يمثّل خيبةً لا تشاؤماً. استنكاراً لا استسلاماً. صرخة لا صمتاً مطبقاً.
وطالما أنني ذكرت التشاؤم، أودّ أن أعلن أنني أوّل المتفائلين إذا كانوا كُثُراً، وآخرهم إذا كانوا نفراً قليلاً. المسألة هي إذاً مسألة خيبة، وواقع مرير ندلّ عليه حتّى نتململ، ونرفض… وهي المشاعر التي تسبق عادةً الدعوة إلى التقويم، والتغيير.
على أيّ حال، نفترض أنّ وسيط الجمهوريّة موجود، وننظر إلى شخصيّته وصلاحيّاته وفاعليّته من خلال القانون الذي أنشأه.
من زاوية الشخصيّة، ينصّ القانون رقم 664 تاريخ 4/2/2005 المتعلّق به، على أنّه شخصيّة مستقلّة متفرّغة لا تتلقّى التعليمات من أيّ سلطة، وعلى وجوب تمتّعه “بالسمعة الحسنة والمناقبيّة الرفيعة والكفاءة المهنيّة”، فضلاً عن الشروط الأخرى اللازمة (كالمستوى العلمي والخبرة) لتعيينه.
ويمنحه القانون حصانة تحول دون إنهاء خدماته إلّا إذا شاء، أو إذا تعذّر عليه ممارسة مهامه بسبب المرض، أو إذا ارتكب خطأ جسيماً يثبت بموجب تقرير تضعه لجنة مؤلّفة من أعلى قضاة الجمهوريّة وهم : الرئيس الأوّل لمحكمة التمميز ورئيس مجلس شورى الدولة ورئيس ديوان المحاسبة. ومن وجوه الحصانة كذلك أنه لا يمكن ملاحقته بسبب الآراء الصادرة عنه في معرض ممارسة مهامه، وأنّه يضع سنويّاً مشروع موازنته بنفسه.
هذا اللون من ألوان الشخصيّة، وهذه الحصانات… وبصورة خاصّة هذا التأكيد على استقلال الوسيط عن سلطات الدولة، وعن أعلاها بخاصّة… كلّ ذلك يمهّد للقول إنّه بمستطاعه الإسهام في محاربة الفساد والإسهام ولو عن طريق التوصيات -كما تبيّن لاحقاً-في الإصلاح الإداري، هذا إذا كان مستقلّاً بالفعل، وإذا لم توضع بوجهه العراقيل من قبل المتضرّرين في الإدارة، وفي الدولة على العموم.
ومن زاوية الصلاحيّات، وبعد أن استبعد القانون الخلافات الناشئة بين الإدارة وموظفيها (مسرحها مجلس شورى الدولة ) والطعن في مجريات دعوى عالقة أمام السلطة القضائية أو الطعن في صحّة حكم قضائي (مسرحهما القضاء)، حدّد صلاحيّات الوسيط التي دارت في محورين: محور الوساطة، ومحور التوصيات .
في محور الوساطة، وبعد تلقّي الطلبات من الأشخاص المعنويين أو الطبيعييّن وتقدير جدّيتها، يعمل الوسيط على معالجتها عن طريق تقريب وجهات النظر، فإمّا أن يُحسم الأمر، وإمّا أن يُوصي الإدارة بماعليها أن تفعله.
وفي محور التوصيات يمكن الوسيط أن يتقدم من الإدارة المعنية بما من شأنه تحسين سير العمل وتطويره، ويمكنه كذلك أن يوصي بتعديل النصوص القانونية والتنظيمية في حال كانت النصوص المرعية التطبيق تفتقر إلى العدالة والإنصاف. كما أنّه بمستطاعه وضع الهيئات الرقابية في جوّ كلّ خلل يستخلص وجوده.
ومن الطبيعي أن يلحظ القانون –كما حصل فعلاً- وجوب أن يضع الوسيط تقريراً سنوياً شاملاً أو تقارير جزئية حول مواضيع ذات أهمية خاصة، يرفعها إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، على أن تنشر في الجريدة الرسميّة.
هذه التوصيات والتقارير، وإن لم تحمل في مطاويها قرارات ملزمة، أو حتى اقتراحات تتناول ضرورة إحالة بعض الموظفين المخالفين إلى الهيئات التأديبية المختصّة… تظلّ ذات ثقل معنوي ملحوظ… وتعكس، على الأقلّ، ما تراه عين الوسيط الذي لم يعد في مشاهداته هذه وسيط الجمهورية فحسب، بل صار وسيط الشعب كذلك، بل شاهداً على ما يضنيه من وجوه المزاجية والروتين الإداري، ناهيك عن ربط إنجاز المطالب المشروعة للمواطنين بشروط غير مشروعة في صدارتها إعمال مبدأ “لا عمل بدون أجر” في غير محلّه الطبيعي.
وفي محور الفاعليّة، يُستحسن النظر إليها من زاويتين :
الزاوية الأولى تتمثّل بالجهود الناجعة التي يقوم بها الوسيط في بعض الحالات لإزالة سوء التفاهم وتقريب وجهات النظر بين المواطن والإدارة. ونظنّ أنّ حظوظ اقتران جهوده هذه بنتيجة إيجابية هي كبيرة نظراً لموقعه المعنوي.
والزاوية الثانية تتمثّل بتحريك الضمائر، ضمائر المسؤولين الأعلين على الأخصّ حين يتبلّغون تقاريره المتضمّنة توصياته، وحين تُعطى لهذه التقارير الصفة الرسمية لدى نشرها في الجريدة الرسميّة.
وممّا يلفت أنّ المادة السادسة من القانون نصّت على أنّه في حال استنكاف الإدارة عن تنفيذ حكم قضائي ضمن مهلة معقولة يحدّدها الوسيط لها، يغدو الامتناع عن التنفيذ موضوعاً لتقرير خاص يرفع إلى كبار المسؤولين ويُنشر في الجريدة الرسميّة.
في هذا الصدد، نذكّر بأنّ المادة 93 من نظام مجلس شورى الدولة نصّت على أنّ أحكام المجلس ملزمة للإدارة التي عليها تنفيذها في مهلة معقولة تحت طائلة المسؤولية وتالياً تحت طائلة إلزامها بغرامة إكراهيّة يقدّرها المجلس وتظلّ سارية حتى تنفيذ الحكم.
إنّ قانون وسيط الجمهورية وضع الإصبع على هذه البليّة التي تضاف إلى بلايا الاستهتار بمبادئ دولة القانون وحكم القانون، بعد أنّ كان نظام مجلس الشورى الدولة قد وضع الإصبع على الجرح ذاته.
ولكنّ الفارق بين ما جاء في القانونين هو أنّ قانون وسيط الجمهورية، لدى نصّه على نشر واقعة الامتناع في الجريدة الرسميّة، يكون قد سبق قانون مجلس شورى الدولة على ظاهرة نشر البليّة “على صنوبر بيروت”، كما جاء في تقاليدنا الشعبيّة الطيّبة.
أقف هُنا مكتفياً بهذا القدر، ومعرّجاً في نهاية الطريق على آفة الآفات في بلدنا، على آفة الفساد التي لا يستطيع اقتلاعها قانون وسيط الجمهورية ولا قوانين الهيئات الرقابية والهيئات التأديبيّة، ولا كلّ القوانين والتنظيمات المرعية الإجراء…
لن تُقتَلَع إلّا إذا قُدّر لشعب لبنان… أو إذا قَدِرَ على الأصحّ… أن يقلب الطاولة التي رُسِمَت عليها خريطة الزبائنيّة والمحاصصة وسائر الصّفقات، على اللاعبين، مستبدلاً منها خريطةً لمجتمع يُحاسب، ولدولة مدنية… خريطة تضع حدّاً لاعوجاج الأزياح، ويفحّ من أوراقها عطرُ الشفافيّة. خريطة أدعو شباب لبنان، ونظيفي الكفّ بشكل عام، إلى البدء برسم خطوطها الأولى، وإلّا ضاعت الدولة، وضاع معها الوطن الذي نحبّ ويحبّون.
القاضي غالب غانم
الجمعة 12/5/2017
الأونيسكو، خلال المؤتمر السنوي لطاولة حوار المجتمع المدني.