يحتاج الإنسان بطبيعة تكوينه الفطرية إلى قوة يلجأ إليها، يتوسّم بها الحماية والدفع والتوجيه في آنٍ واحد .
ومنذ ما قبل نشوء وابتداع واسقاط الأفكار وتبلور حيثياتها بأشكال مختلفة، بدأ الإنسان الاحتكاك بالمحيط، سواء أكان طبيعة أم موارد أم أجناس .
وكانت الطامة الكبرى في احتكاكه بأخيه الإنسان .
هذا الاحتكاك الذي بدأ مع ابتداء الخلق وما زال، يتفاعل إيجاباً وسلباً، كان منشِىء الأفكار فيما بعد، والنُظم والقوانين والتقاليد والأعراف أيضاً .
وقد مرّ بالكثير من التجارب أثرت بحياة البشر بشكل لافت .
إلاّ أنّ وجهاً من اوجه هذا الاحتكاك مازال حتى يومنا، مصدر كل بلاء .
وهو معرفة الآخر وتقبّله على الرغم من اختلافه بغضّ النظر عن سبل الاختلاف .
قامت حروب واضطهادات ومجازر وإبادات في التاريخ، عانت منها البشرية وما تزال .
وتنوّعت وتبدّلت خلفياتها وأسبابها ونتائجها .
غير أنّ نظرة سريعة لمجرى حروب كثيرة، تجعلنا نعتقد جازمين أنّ الأساس والمرجع في هذه الحروب، هو عدم الدخول في ماهية الآخر ومعرفته حق المعرفة، وعدم تقبّله .
وقد يًرجع البعض أسباب تلك الحروب لعوامل اقتصادية وسياسية ودينية وما شاكَل، وهذا صحيح .
غير أنّ الجذر الأساس هو في عدمية المعرفة والقبول .
وقد حاول كثيرون شرح وتفصيل وتفنيد هذه العملية، وحثّ الإنسان على قبول أخيه، منهم مَن جاء بالفكر الديني، ومنهم بالفكر العقائدي والسياسي والوطني ومصطلحات شتّى، تنوّعت لتدغدغ مشاعر العاطفة والحسّ حيناً، والمنطق حيناً آخر .
غير أنّ الأجدى كان البحث الداخلي للإنسان نفسه، انطلاقاً من فهم ذاته , ليعبر بها إلى فهم أخيه .
وعلى الإنسان إدراك حقيقة جوهرية في هذه العملية، وهي أنّ اختلافه عن ومع الآخر، لا يشكّل حاجزاً أمام ارتقائه إلى المصاف التي يجب أن يكون بها .
وليس بالضرورة جعل هذا الخلاف أو الاختلاف قاعدة للعداء والإلغاء .
إنما مرتكزاً أساسياً لعملية التكامل الفعلية .
وقد تتشكّل من ذلك حالة وجودية أعمّ ترتقي بالإنسان والمجتمع على حدّ سواء .
لذا , وبعيداً عن الدراسات والعلوم المتنوعة، هناك سبيل أخفّ وطأة، ولا يحتاج إلى فلسفة عميقة تحكمه وتسيّره، هو طريق معرفة الذات والانطلاق منها إلى معرفة الإنسان .
وبذلك يتحقّق الجزء الأول من عملية المعرفة الوجودية لنا .
حيدر حيدر