أشهر قليلة تفصلنا عن الاستحقاق الأهم في الحياة السياسية حيث يتحضر لبنان لخوض غمار الانتخابات النيابية في 6 أيار المقبل بعد التمديد للمجلس النيابي ثلاث مرات، وتختلف الانتخابات هذه المرة لكونها الاولى التي سيختار فيه المواطن ممثله في الندوة البرلمانية وفق نظام النسبية بعدما كانت الانتخابات تخاض وفق القانون الأكثري، والذي كان حتماً يؤدي الى فوز مرشحي الاحزاب السياسية في جميع الدوائر.
وعلى رغم أن قانون النسبية الجديد قسّم لبنان الى 15 دائرة انتخابية تتوزع بحسب انتشار القوى السياسية الممثلة حالياً، والتي انتجت هذا القانون بما يتناسب مع طموحها، ولكنه من ناحية أخرى فتح شهية قوى الحراك المدني، التي برزت على الساحة كأحد سبل التغيير بعد ازمة النفايات التي عصفت بلبنان في 2015، على الترشح واضعة نصب عينيها هدف الانتقال من المطالبة بالتغيير من الشارع الى مجلس النواب.
هذه النقلة النوعية للحراك المدني أثبتت إيجابية جديدة في العمل السياسي اللبناني وخصوصاً أن ناشطين معروفين تُطرح اسماؤهم كمرشحين محتملين للانتخابات النيابية، وهذا دليل عافية بعدما فقد جزء كبير من اللبنانيين ثقتهم بالأحزاب السياسية التي كانت تعتبر الاستحقاق النيابي كتحصيل حاصل لاعادة انتاج الوجوه نفسها والأداء السياسي ذاته.
ولكن مع بدء مجموعات الحراك المدني تحضيراتها اللوجستية استعداداً للاستحقاق الديمقراطي برز الخلاف الكبير في وجهات النظر بين مختلف مجموعاتها، وخصوصاً بعد إطلاق تحالف “وطني” الذي كان تعويل المعارضين للأحزاب الحاكمة عليه، حيث أظهر هذا التحالف هشاشة بعض المجموعات، وهذا ما كان واضحاً خلال السنة الفائتة التي كانت تجتمع فيها هذه المجموعات في الظل تحضيراً للاتفاق الكامل على ميثاق شرف موّحد، وكان تجمّعها يحصل تحت اسم “قسم” قبل الاتفاق على الظهور علناً باسم “وطني”، بحسب مصادر داخل تحالف “وطني”.
وحرصاً على عدم انفراط عقد التحالف، تتحدث هذه المصادر بهدف “تعزيز دور المجموعات الفاعلة والتحذير من بعض الأفراد التابعين لأحزاب سياسية في وقت يتلطون تحت سقف المجتمع المدني بهدف ضربه من الداخل لصالح أحزابهم”.
تقويض بناء المؤسسات
وتقول المصادر إن “أولى بوادر الخلافات بين المجموعات بدأت بالظهور بعد طرح مواضيع تشكل مفاصل رئيسية في السياسة اللبنانية ما أدى الى انقسام في رؤية “بيروت مدينتي” بين مستقبل التحالف ونتائجه على الساحة البيروتية من جهة، وإمكانية التحالف مع من كانوا بالأمس القريب منافسين للائحة في الانتخابات البلدية، مثل الوزير شربل نحاس. مما أدى إلى انقسام المجموعة ما بين تحالف وطني من جهة يديرها مارك جعاره، وجهة ثانية يديرها آخرون يبنون تحالفات ترسم حالياً على مقاس بيروت الثانية فقط”.
“بدنا نحاسب”
وتتابع: “لم تتوقف هذه الخلافات عند “بيروت مدينتي”، التي حققت نتائج يعول عليها في الانتخابات البلدية 2016 والتي قاربت 40% من الأصوات في بيروت، بل كذلك ضربت مجموعة “بدنا نحاسب” التي لم تدخل التحالف ولم توقّع على ميثاق الشرف الخاص به بسبب تعارض بنيتها التنظيمية مع الوثيقة التي يفترض أن توقع عليها كل المجموعات المنتمية إلى “وطني”، مما فرض استبعاد المجموعة من الساحة التحالفية المدنية بحيث ردت بعدها أحدى ناشطات المجموعة بإعلان هجومي نشر بعد إطلاق التحالف”.
“سبعة”
الى جانب “بيروت مدينتي” و”بدنا نحاسب” يطفو اسم “سبعة” الى الواجهة، هذا الحزب الذي لم يكل ولم يمل طوال الفترة السابقة بالاعتراض على التمديد والنزول الى الشارع للمطالبة بإجراء الانتخابات في موعدها تبين، بحسب مصادر تحالف “وطني”، أن القرار النهائي في “سبعة” ليس بيد الهيئة الإدارية التي تظهر للعلن في الإعلام والندوات الانتخابية، حيث يعتقد المصدر أن هناك مجموعة تعمل في الخفاء وتضع الخطوط العريضة والمبادئ الأساسية للحزب للسير على أساسها، ومن المرجح أن تكون “المجموعة الخفية” هذه تعمل تحت ستار احزاب لبنانية تهدف الى ضرب الأسس التي بني عليها المجتمع المدني لإظهاره بموقع الضعيف أمام الناس وغير قادر على تغيير ما كان ينتقده في أداء السلطة السياسية.
بعيداً عن “وطني” والمجموعات المنضوية تحت رايته، فمن الواضح أيضاً ان قانون “النسبية” فتح شهية كل المجموعات غير السياسية في المناطق لإعلان نيتها الترشح للانتخابات ما يؤدي في طبيعة الحال إلى عدم توحد القوى المعارضة تحت سقف واحد، الامر الذي يريح الاحزاب السياسية لكون منافسها منقسم على نفسه ويأكل من حصص بعضه من جهة، ومن جهة أخرى يؤكد ان بعض هذه الاحزاب قد دعم مجموعات تطلق على نفسها اسم “مدنية” بهدف الترشح بوجه بعضها و”لتأكل” أصوات مجموعات أخرى ويبقى بذلك الحزب محافظاً على فارق الأصوات لصالحه ما يؤدي حتماً الى فوز مرشحيه في الانتخابات وانقسام بقية الأصوات على مجموعة من “مجموعات الحراك المدني”.
ليس الهدف في كل ما ذكر ضرب بنيان المجتمع المدني الذي يؤمل أن يكون فعلاً على قدر المسؤولية في خوض الانتخابات والفوز وتغيير الواقع المرير الذي يعيشه لبنان منذ سنوات، بل للإضاءة على أن “ليس كل ما يلمع ذهباً” ، حيث أن الاحزاب السياسية استطاعت ان تتسلل لبعض مجموعات الحراك المدني بأساليب مختلفة أحدها التمويل الذي تحتاجه أي مجموعة للاستمرار، وان تؤثر بذلك على قراراتها الرئيسية، ما أدى إلى شرخ كبير في جسم المجتمع المدني، وهذا جل ما تتمناه هذه الاحزاب لإظهار ضعف المجتمع المدني بمشهد الضعيف أمام الرأي العام.
ويبقى السؤال: “إذا كانت الخطوط العريضة في السياسة قادرة على شقّ صفوف المجتمع المدني، فهل هذه المجموعات قادرة على الاتفاق على اللوائح والمرشحين، وهل هي قادرة في حال فوزها بالانتخابات أن تشكل كتلة منسجمة في الندوة البرلمانية؟؟ كل هذه الأسئلة تظهر عليها إجابات واضحة في المستقبل، و”إن غداً لناظره قريب”.
محمد العاصي