يستفيق اللبنانيون في أحد أيام تشرين الأول على خبر صاعق: فصل المقدّم سوزان الحاج من منصبها كرئيسة لمكتب مكافحة جرائم المعلوماتية ووضعها تحت التصرف والتحقيق معها على خلفية وضعها “إعجاب” (Like) على تغريدة للممثل الكوميدي شربل خليل علّق فيها على قرار المملكة العربية السعودية السماح للمرأة بالقيادة بطريقة اعتبرت تهكمية ومسيئة.
يكشف بعض وسائل الإعلام “معلومات” تفيد بأن الحاج تقدّمت بشكوى (قبل أيام من فصلها) تحت عنوان “اختلاق جرائم وفبركة أحداث” ضدّ “المدعو زياد عيتاني كون هذا الشخص أقدم على بث السموم واختلاق جرائم وفبركة الأحداث”.
يستفيق اللبنانيون في أحد أيام تشرين الثاني على خبر صاعق: المديرية العامة لأمن الدولة توقف الممثل المسرحي زياد عيتاني بشبهة التعامل مع العدو الإسرائيلي!
كبركان للتوّ ثار وانفجر، يُصبح هذا “الخبر”. “حدثٌ” (أي توقيف شخص بتهمة الاشتباه بارتكابه جرم ما) لو حصل في أي دولة تحترم القوانين والحقوق، لما كان أصلاً قد استوفى شروط “الخبر” لعدم إجابته على الأسئلة الخمسة كلّها، وتحديداً “من؟”! لكانت السلطات الرسمية والإعلامية اكتفت بالإشارة إلى عملية توقيف مواطن، وبالتذكير بالقاعدة الذهبية التي تقول:”المتهم بريء، حتى تثبت إدانته”، طالبة من الجميع انتظار القرار القضائي المبرم، لا الاتهامي وحسب!
أما في لبنان، فيحصل أن يستفيق اللبنانيون على “خبر” صاعق. بل على بيان رسميّ صادر عن جهاز أمنيّ يجزم بأنه تمّ توقيف عيتاني بعد شهور من الرصد والمتابعة والاستقصاءات داخل لبنان وخارجه أدّت إلى قيام وحدة متخصصة من هذا الجهاز الأمني (أمن الدولة) بتثبيت الجرم فعليا على المشتبه فيه. ويجزم البيان ايضاً بأن المتهم اعترف بما نُسب إليه وأقر بالمهمات التي كلف تنفيذها في لبنان ومن ضمنها مراقبة شخصيات سياسية رفيعة المستوى تحضيراً لاغتيالها، والترويج للتطبيع مع العدو بين المثقفين.
يحصل أيضاً أن يستفيق اللبنانيون على “تقارير” تُنشر في بعض وسائل الإعلام تُكشف فيها مجريات التحقيق بكامل تفاصيلها حتى يُخيّل للقارئ أنّ الصحافي كاتب تلك التقارير يتواجد في الغرفة نفسها مع الموقوف. ويحصل في هذا الإطار ألا يتحرّك أحد للاعتراض على ما يجري من انتهاك لسرية التحقيق ومن تشهير بسمعة مواطن بريء مشتبه فيه حتى يثبت العكس.
يحصل أيضاً أن يتفاعل اللبنانيون مع الحدث. أغلبية صدّقت وسلّمت بالأمر. عيتاني عميل يا عيب الشوم. لا تلام هذه الفئة على تبرّئها من بطل المسرحيات وشتمها له، “فالعميل” (وهذا ما أكدّه بيان جهاز أمنيّ) أكثر جرماً من قاتل متسلسل.
لكن بلى، تلام هذه الفئة على شيء واحد وهو أنها لم تنتظر كلمة القضاء ووثقت بما يصدر عن الأجهزة الأمنية غير المخوّلة أصلاً إعلان البراءة أو الإدانة. تلام الأغلبية التي صدقت وتفاعلت وانفعلت على غرقها المجدد في مستنقعات الطائفية ووحول الأحكام المسبقة وأوساخ آفة التعميم بحيث يضحى الفرد، في أحيان عشوائية واعتباطية، مختصراً عائلة أو طائفة.
هل فعلاً تستحق هذه الفئة أن تُلام؟! نعود إلى نقطة الضياع. ولم يُلام شعبٌ يعيش عملياً في دولة فساد حيث لا مؤسسات ولا احترام لمبدأ فصل السلطات ولا تقيّد بالدستور والقوانين؟ بل لم يلام شعب يحيا في “عصفورية”، أو في أفضل التسميات: في جمهورية الغرائب والعجائب…والمسرحيات؟!
كيف يُلام شعبٌ عندما يستفيق في أحد أيام آذار، ليخبره وزير الداخلية، عبر تغريدة على موقع “تويتر”، بأنّ الممثل زياد عيتاني بريء وقد لفقت المقدم الحاج التهمة إليه، داعياً في رسالته اللبنانيين إلى الاعتذار من المسرحي؟!
ولم يعتذر الشعب؟ وعلام؟ وممن؟!
وماذا يعني أن تلفق رئيسة جهاز أمني تهمة بهذا الحجم إلى مواطن لبناني؟ وماذا يعني أن يصرّ جهاز أمنيّ آخر على عمالته؟! وماذا يعني أن يستبق وزير الداخلية القضاء ليقول كلمته في القضية؟! ومن قال إن المقدم الحاج مرتكبة وظالمة، أليست القاعدة الذهبية نفسها تنطبق عليها؟ّ! أوليس القضاء وحده المخوّل إظهار الحقيقة؟!
ألا يحق للشعب أن يطرح مئة ألف سؤال وسؤال عن كلّ هذه “المسرحية” مطالباً بمعرفة “ابطالها” ومخرجها وضحاياها طالما أنه مدعوّ للاعتذار؟!!
وماذا يعني ألا يستقيل اي مسؤول؟! ماذا يعني ألا يخرج أي مسؤول في الحكم ليقول بالفم الملآن: أنا مسؤول! ماذا يعني أن يُحمّل من هم في الحكم مسؤولية الفشل والوقوع في الخطأ للشعب دوماً؟! ووفق هذه الآفة، أليس وارداً أن يخرج في الغد مسؤول يتهم اللبنانيين بتورطهم في انقطاع الكهرباء؟ أو في انتشار النفايات والسموم والسرطانات؟! أو حتى في تراكم الدين العام؟!
الأمر خطير. البلد خطير.
وبعد.. ماذا يعني أن نسمح لأنفسنا بالتفكير وفق نظرية المؤامرة؟ ولم لا نسمح بذلك أصلاً طالما أنّ “الدولة” تلفق قضايا لمواطنيها؟! وماذا يعني، انطلاقاً من نظرية المؤامرة، أن يكون كل ما حصل، قد حصل، كما يقال ويتردد، على خلفية الانتخابات؟
ماذا يعني أن نشعر بالغثيان؟! بالدوار؟! برغبة جامحة في تدمير الهيكل على الرؤوس؟! ماذا يعني أن نشعر بالخوف؟! بالقلق؟ بانعدام الثقة تجاه دولة. دولة يديرها مسؤولون، على الأرجح سيعودون إلى الحكم بعد اشهر قليلة. ماذا يعني أن نقف أمام المرآة، في أحد أيام آذار، لنسأل أنفسنا بحسرة: حقاً.. من نحن؟!”
ربيكا سليمان