أثارت العبارة التي نقلها البطريرك الماروني عن رئيس الجمهورية، أن “البلد مفلس”، المخاوف والقلق. وقد جاء التوضيح لاحقاً ليؤكد المؤكد: الوضع المالي والاقتصادي يجتاز مرحلة دقيقة، واذا لم تتخذ قرارات المعالجة سريعاً، قد تصل الامور الى حد الافلاس.
في البداية، لا بد من وضع الامور في نصابها لتفهّم الظروف التي استدعت استخدام عبارة البلد مفلس من قبل رئيس الجمهورية. اذ جاء هذا الكلام في معرض التفاعل مع مطلب البطريرك الماروني بوجوب ان تتحمّل الدولة دفع فروقات الدرجات الست التي أُقرّت لأساتذة التعليم الخاص، حماية لاستمرارية المدرسة الخاصة، وابقاء المجال مفتوحا لابناء الطبقة الوسطى لارسال اولادهم الى هذه المدارس.
وبالتالي، جاء توصيف الرئيس للوضع المالي للبلد، لكي يبرّر للبطريرك سبب عدم التجاوب مع مطلبه. بمعنى آخر، أراد الرئيس أن يقول بوضوح ان الدولة لم تعد قادرة على زيادة انفاقها لئلا تزيد العجز، وتعقّد الأزمة أكثر مما هي معقدة.
لكن، وقبل كلام رئيس الجمهورية، وردت عبارة الافلاس على لسان اكثر من مسؤول ووزير، آخرهم وزير الصحة الذي حذّر بوضوح من ان البلد يتجه الى الافلاس، اذا لم تتخذ تدابير سريعة لوقف هذا المصير المحتوم، في حال استمرار السلوك الرسمي على ما هو عليه اليوم.
ما الذي يستدعي هذا النوع من التحذيرات القاسية، وهل الوضع المالي والاقتصادي على هذا الجانب من الخطورة فعلا؟ وكيف صمد البلد في اصعب الظروف في السنوات الماضية ولم يصل الى الافلاس، ويمكن ان يواجه هذا المصير اليوم، في ظل اوضاع امنية مستتبة، ودولة مكتملة الأوصاف، مؤسساتها الدستورية تعمل كلها بانتظام، وفي ظل العودة الى الممارسة الديمقراطية من خلال الانتخابات النيابية المتوقعة في 6 ايار المقبل؟
في الواقع، التحذيرات من الكارثة او الافلاس أو ما شابه ذلك، ليست حديثة، بل تعود الى سنوات خلت. واذا كانت الكارثة لم تقع حتى اليوم، فهذا لا يعني انها لن تقع غدا. وما كان يُقال قبل ثلاث او اربع سنوات، لا يمكن اعتباره كلاما في الهواء استنادا الى ان الدولة لا تزال واقفة على رجليها. تماماً كما أن عدم انهيارها غداً، لا يعني انها لن تنهار بعد غد او بعد بعد غد. انها مسألة توقيت لا اكثر ولا أقل.
ولئلا يُساء تفسير هذا الكلام، او تحويره كما حصل سابقا في موضوع فرضية إعادة تقييم سعر صرف الليرة مقابل الدولار، خصوصا بعد تغيير عنوان المقال للايحاء بأن الدولار سيساوي 3 الاف ليرة في المرحلة المقبلة، لا بد من التوضيح ان الافلاس او الكارثة ليس قدراً محتوماً، ووقف الانحدار نحو الهاوية لا يزال مُتاحاً شرط اتخاذ القرار وبدء تنفيذ الاجراءات التي تمنع الوصول الى نقطة اللاعودة.
الوضع المالي والاقتصادي وبالأرقام بات معروفا. وللتذكير وصل حجم خدمة الدين العام الى حوالي 5 مليار دولار سنوياً. وصل حجم الدين العام الى 80 مليار دولار. لم يسجل الاقتصاد نموا سوى بواقع 1% كمعدل وسطي في السنوات الثلاث الماضية.
نمو الدين العام اقترب من نسبة 7% سنويا، وهي نسبة مرشحة للارتفاع في السنوات الثلاث المقبلة وصولا الى 10%. نسبة الدين على الناتج المحلي أصبحت حوالي 150%. نسبة العجز في الموازنة حوالي 13%.
هذه الارقام، ولمن يجيد القراءة البسيطة والبدائية في الاقتصاد، يُدرك حجم التعقيدات التي بلغها الوضع المالي والاقتصادي، والأهم يدرك الى اين يتجه البلد اذا استمر المشهد من دون تغيير دراماتيكي للمسار الحالي.
في كل الاحوال، يعود الفضل في صمود البلد اقتصادياً ومالياً حتى اليوم الى عاملين اساسيين:
اولا- قطاع مصرفي قوي ومتين نجح في اكتساب ثقة داخلية وخارجية لا تتمتّع بها الدولة نفسها، وهذا وضع غريب واستثنائي.
ثانيا – سياسة مالية واقتصادية حكيمة يديرها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بحكمة وحزم منذ تسلمه الحاكمية في العام 1993.
هذا العاملان لا يزالان قائمين، لكن الاعتماد عليهما، للتمادي في الاهمال والهدر وغياب القرار السياسي بوقف النزيف ينطوي على جهل وجرم شنيع غير مقبول. قُدرة المصارف ومصرف لبنان ليست بلا سقف.
والسياسة التي يتبعها من في يده القرار السياسي ستؤدي عاجلا أو آجلا الى خرق هذا السقف، وهدم الهيكل فوق رؤوس ناسه. الوقت صار ضيقا جدا، إما أن يُتخذ وينفذ قرار الانقاذ، وإما ما قاله رئيس الجمهورية، وهي ليست نبوءة، سيتحقق في توقيت لم يعد بعيداً.