يتفرّج وزير مكافحة الفساد نقولا تويني على نصف «زملائه» في الحكومة وهم يخوضون «معاركهم» الانتخابية من دون أدنى اعتبار لمعايير الفصل بين موقعهم وحساباتهم الشخصية. إنتهاكات بالجملة جَعلت من وزراء مرشحين بـ «سمنة» وآخرين مرشحين بـ «زيت». طوال عام وأربعة أشهر عجزَ وزير مكافحة الفساد عن وضعِ سارق واحد للمال العام في السجن، وها هو يتابع عن قرب فضائحَ الطبقة السياسية في خوضها للانتخابات!
حافَظ لبنان في السنوات الماضية على المستوى المتدنّي نفسِه في مؤشّر النزاهة. في شباط المنصرم أعلنت «الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية – لا فساد»، الفرع المحلي لـ»منظمة الشفافية الدولية»، عن تراجعِ لبنان الى المرتبة 143 عالمياً من أصل 180 دولة يقيسها المؤشر، مقارنةً بمرتبة 136 لعام 2016 من أصل 176 دولة.
لا يمكن سوى توقّعِ مزيد من التراجع في ضوء انتخابات نيابية تشهد أسوأ إدارة سياسية لها منذ عقود تحت سقف قانونٍ عزَّز مفهوم الرشاوى الانتخابية كرمى للأصوات التفضيلية.
إنتخاب رئيس للجمهورية، بعد فراغ رئاسي طويل، ثمّ تشكيل حكومة لم يُغيّرا كثيراً في المشهد. سُجّل للسلطة الحاكمة حتى الآن إقرارُها ثلاثة قوانين أساسية: قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، قانون انتخاب على أساس النظام النسبي، وقانون الموازنة.
لكنّ هذه القوانين أتت مشوبةً بعيوب عدّة، فكافةُ الإدارات الرسمية لم تلتزم بموجبات تطبيق قانون الحق الوصول الى المعلومة، وآلية قانون الانتخاب أدخلت مفاهيم جديدة الى الممارسة الانتخابية دفعَت اللبنانيين والمرشحين الى الترحّمِ على «فساد» المرحلة السابقة، أمّا قانون الموازنة فلم يلحظ قطعَ الحساب «المغيَّب» منذ 2004 كما أتى مترافقاً مع تسويات شرّعت التهرّب الضريبي وأخفَت نسبة العجز الفعلي وأبقَت على حجم الإنفاق نفسِه…
القيّمون على ورشة مكافحة الفساد في العهد الجديد يراهنون على إعادة تقييم دولية جدّية ومُنصِفة لموقع لبنان على مؤشّر الفساد، خصوصاً بعد إقرار قانون «حقّ الوصول إلى المعلومات» وصدور المراسيم التطبيقية له.
وقد حُمّلت سفيرة الاتحاد الاوروبي كريستينا لاسن رسمياً الطلبَ اللبناني من جانب تويني خلال زيارتها له للمرة الأُولى في مكاتب الوزارة في بيروت بُعيدَ تعيينه في موقعه.
لاسن أبدت يومها تقديرَها لـ»التغييرات الإيجابية التي بدأت تظهر»، مجرّدُ كلام «ديبلوماسي» طالما إنّ اللبنانيين أنفسَهم لا يزالون يهجسون بفساد يتنفّسونه يومياً ويَرصدون ظواهرَه العلنية بلا عناءِ الحاجة إلى استكشافه. يَحدث ذلك في الملفات الكبرى كما في أصغر معاملة لدى إدارة رسمية وصولاً إلى «كوارث» المخالفات المترافقة مع التحضير لانتخابات 6 أيار.
إختبَر وزير مكافحة الفساد منذ تعيينِه معاناةً حقيقية في تحديد الوزراء موعداً له، أو الأخذ بنصائحه في «الإدارة الرشيدة» لإجراء المناقصات والتلزيمات لينتهي به الأمر مُدرَجاً على لائحة «المغضوب عليهم» الى جانب وزراء آخرين لدى الوزير جبران باسيل، بسبب قلّة الإنتاجية و»التخبيص» وأحياناً العرقلة وعدم إعطاء قيمة إضافية لرصيد «التيار الوطني الحر» أو «إيمج» رئيس الجمهورية!
وزارة دولة لمكافحة الفساد هي مِن ضِمن سِتِّ وزارات أُحدِثَت في الحكومة الحالية فرَضتها متطلّبات التوزيع الطائفي والسياسي قبل الحاجة الفعلية اليها، وليس مؤكّداً أنّها ستبقى من الوزارات «الثوابت» ضِمن تركيبة الـ 30 وزيراً في الحكومات المقبلة.
وزارة بقيَت بلا ملاك ولا موازنة، وراتب وزيرِها البالغ ثمانية ملايين ليرة يذهب لتغطية جزءٍ من أتعاب فريق عملها المؤلف من 12 شخصاً، بينهم قاضيان مفصولان من وزارة العدل، محاميان، ومتطوّعون شباناً مهمّتُهم الأساسية الاستقصاء وجمعُ المعلومات وإعداد التقارير.
أوّلُ مهمّة لوزبر مكافحة الفساد كانت دفاعه عن نفسه في «تهمة» سبَقت صدورَ مرسوم تعيينه: دفع رشوة لتوزيره! لكنّه بادرَ سريعاً الى نفيِها «ليس فقط هذا الأمر هو النقيض لتاريخي ونهجي وإقتناعي، لكنّني فعلاً لا أملك أموالاً لأدفعَها، وحتى إنّني خسرتُ مصانعي في السعودية. لقد علمت بقرار توزيري قبل نصفِ ساعة، فكيف يمكن أن أكون قد دفعتُ لأوزَّر!».
بمقدار ما يعلّق تويني أهمّية على العمل التأسيسي الذي قامت به الوزارة و»التوعية» في مجال مكافحة الفساد، بمقدار ما أجبرَته العوائق والضغوط النفسية على وصفها «وزارة تسويد الوجه». يقول تويني في مجالسه، أنه إضافةً الى مهمات الوزير «لدي إطلالاتٌ ومواقف سياسية قد لا تُعجب كثيرين بسبب انحيازي الى الحق؛ الفقراء يحبونني، لأنني أدافع عن حقوقهم»!
بالتعاون مع وزارة الدولة لشؤون التنمية الادارية قدّمت وزارة مكافحة الفساد لرئيس الحكومة استراتيجية موحّدة لمكافحة الفساد، وعلى أثرها عقدت اجتماعات برئاسته مع الهيئات الرقابية والوزيرة عناية عز الدين ولم يصل الملف الى خواتيمه.
كما أنّ الاستراتيجية تحتاج من أجل تطبيقٍ أكثر فعالية إلى إقرار أربعة قوانين بالتلازم معها: حماية كاشِفي الفساد، الإثراء غير المشروع، تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والآلية الموحّدة للمناقصات وقانون التصنيف الموحّد. عملياً، لم يتمّ إقرار أيّ مِن هذه القوانين.
وحتى يقضي القرار السياسي أمراً كان مفعولاً أدّت الوزارة طوال المرحلة الماضية دوراً استشارياً عند اللزوم وحضّت على التنسيق بين الوزارات والمؤسّسات والهيئات التفتيشية والرقابية، كذلك قدّمت تقارير لرئيس الجمهورية، لكنّها لا تملك حقَّ الاستقصاء ووضعِ اليدّ على الملفات المشبوهة والإحالة الى القضاء، وحين تتجاوز حدود التدخّل في شؤون زميلاتها أو بقيّة المؤسسات والإدارات يَسمَع وزيرها كلاماً من العيار الثقيل كان يَدفعه أحياناً كثيرة الى التفكير بالاستقالة، بعد أن وَعد بُعيدَ تعيينه بأنّ «اليد التي ستمتد الى مال الدولة العام ستُقطع»!
فكرة الاستقالة راودت ابنَ بيروت مراراً، لكنّه لم يتوقع يوماً أن يسمع «كلاماً بالواسطة» عن عدم رضى قيادته عنه الى حدّ التفكير بتطييره والاستغناء عن خدماته!
غالباً ما تحوّلت مكاتب الوزارة حائط مبكى ومساحة للمظلوميات. يستمع الوزير، وفريقُ عمله يسجّل الملاحظات ويبادر، «لقد ساهمنا في حلّ عشرات القضايا الشخصية مع البلديات والوزارات والمؤسسات، وحوَّلنا ملفات عدة الى وزارات أخرى وساهمنا في رصدِ كثير من المخالفات..»
الأحلام «الوردية» لوزير مكافحة الفساد لم تجِد طريقها الى أرض الواقع، وتأكيدُه مراراً أنّ وزارته هي «وزارة الأوادم والأكثر شعبيةً وتحظى بدعمٍ معنوي سياسي واجتماعي وإعلامي» لم يكن دقيقاً أبداً.
في أكثر مِن ملفّ تُرك وزير «النيات الحسنة» يواجه وحده. فسِجاله السابق مثلاً مع وزير الاتصالات جمال الجرّاح لم يحظَ بالمؤازرة السياسية المطلوبة. يتحدّث تويني عن فساد في وزارة الاتصالات فيردّ عليه الجراح «فليُخبرنا الزميل تويني، عن أيّ ملفات فساد في قطاع الاتصالات تمَّت إحالتها الى الهيئات الرقابية؟ كفانا بطولات وهمية وتشبيحاً واعتداءات على كرامات الناس، فليُعلن الزميل عن هذه الملفات أو فليَسكت، كي لا أقول شيئاً آخر».
إستهجَن تويني «عدوانية» الجرّاح هذه، موضحاً أنّه «تطرّقَ فقط الى المواضيع التي وصَلت الى القضاء ومنها «أوجيرو» وكازينو لبنان».
إنتهَت القصة هنا من دون أن يُسمَع «حِسّ» لوزارة مكافحة الفساد لاحقاً في فضيحة الاتصالات حول تلزيمات تمديد شبكة من الألياف الضوئية إلى المنازل والشركات والأحياء، خلافاً للقوانين، ولا في صفقة البواخر، ولا سياسة التنفيعات في التعيينات، ولا المناقصات بالتراضي، ولا الفساد المستشري في الإدارات، ولا في ملف المخالفات البحرية، ولا متابعة ملف مخالفات مشروع «إيدن باي» في الرملة البيضاء…
في الوقائع، أنّ بعض الملفات الدسمة، ومنها ملف استئجار البواخر العائمة التي شكّلت علامة استفهام كبرى لدى الرأي العام هي في الأساس من خيارات «التيار الوطني الحر» في ملف الكهرباء.
وحين كانت الحماسة تأخذ تويني الى أبعد من اللازم فإنّ اتّصالاً واحداً من القصر الجمهوري كان يُجمّد تحرّكاته، كما حصَل في «الكبسة» التي قام بها على الأملاك البحرية في جبيل بعدما تبيّن أنّ «المتّهم» بالإعتداء على هذه الأملاك يملك ترخيصاً قانونياً، أو حين يتلقّى مستشار الوزير المحامي وديع عقل اتّصالاً من القصر يبلغه بالتوقّف عن مهاجمة وزير الأشغال يوسف فنيانوس بسبب سخاء الأخير في فلشِ الزفت الانتخابي وتلبية كلَّ متطلبات «مكتب فخامة الرئيس»…
ملاك عقيل