الفترة المقبلة حبلى بالملفّات السياسيّة، الساخنة والباردة، ومرشّحة لحصول تبدّلات تُطاول الوجوه والمواقع، وهذه التغييرات لا ترتبِط بحصول إقصاءات أو إبعاد بقدر ما ترتبط بالمتطلّبات التي ستفرضُها الانتخابات النيابيّة والإنطباعات التي ستخرج عنها، وتحمل موجِبات للمرحلة الجديدة وتلك المتّصلة بالمستقبل، والتي يجب أن تراعى وأن يجري الإعداد لها منذ الآن.
لا يضمر مرجع سياسي حقيقة إننا أصبحنا في الأمتار الأخيرة لـ”جيل الطائف” من السياسيين المعروفين، الذين هم اليوم، بدورهم، أمامَ الأمتار الأخيرة لختام مسيرتهم السياسيّة الطويلة والحافلة، وتالياً يصبح واقعاً أنهم أمام الأمتار الأخيرة في التمهيد والتحضير لخلفائهم.
وبعد إتضاح هويّة خليفة النائب وليد جنبلاط، ووريث الحالة العونيّة، ومكمّل نهج آل فرنجية، وهويات خلفاء عدد لا بأسَ به من أصحاب البيوت، بقيَ مجهولاً الوريث الشرعي للرئيس نبيه برّي أو مكمّل درب حركة أمل، وبقيَ خاضعاً لاستنتاجات عديدة.
الرئيس بري أعلن مراراً رفضهُ منطق التوريث، والمقرّبون منه يعرفون جيداً أنه أبعد ابنائه عن العمل السياسيّ خشيَةً منه على طبائع التوريث، لكنهم لا يستطيعون نفي أن “أبو مصطفى” يُحضّر شخصيّة لـ”إكمال الدرب”، وهذا أمر لا ضيرَ فيه.
كان الظن السائد لدى أكثر من صالون سياسي، أن هذه الشخصيّة هي اللواء المتقاعد عبّاس إبراهيم الذي رشّح بعد تقاعده لدخول نادي السياسيين الكبار من بوابة الانتخابات النيابيّة، لكنّه فاجأ الجميع بتفضيلهِ البقاء مديراً عاماً للامن العام “بصفة مدنيّة”، وهو ما إحتاج إلى ترتيب خاص.
في إعتقاد المرجع السياسي أن اللواء إبراهيم أجّل دخولهُ حقبة السياسيين ولم يُجهِض الفكرة. وفي رأيه أن اللواء “جديرٌ بشغلِ منصبٍ سياسيٍ مرموق”.
لا يحتاج اللواء إبراهيم سوى إلى كتابة إستقالته بيده، ثم تقديمها إلى الجهة صاحبة الصلاحيّة (بعد أن يتّم تأمين البديل عنه في موقعه) حتّى يخطّ فصل الإنتقال من مرحلة إلى أخرى.
وكما كانت المفاجأة الأولى في بقاء اللواء بمنصبه، جاءت الثانية قبل ساعات، مع تسريب خبر جرى تناقله على مستويات واسعة، يتعلّق بأحاديث حول تولّي اللواء إبراهيم حقيبة وزارة الداخليّة في حكومة العهد الأولى.
فتَحَ التسريب الباب أمام الظنّ بوجود إتفاق ضمني بين الاقطاب يتعلّق بقبول إعتماد مبدأ الحقائب السياديّة الجوّالة، وهذا الإتفاق مبني على التغييرات والتبدّلات السياسيّة المتوقّعة والمردودة عن نتائج الانتخابات، وتفضيل بعض الوزراء مهامهم النيابيّة على الوزاريّة، فإقتضى ذلك خروجهم مبدئيّاً من “جنّة الوزارة”.
يُعزّز هذا الظنّ التوجّه الواضح لدى القصر الجمهوري بإرساء وتطبيق مبدأ فصل النيابة عن الوزارة، الذي لم يخجل الرئيس ميشال عون بإعلان تبنّيه له قبل أيّام، علماً أنه صاحب الحق الحصري في ابوته منذ عام 2009 تاريخ تقديمه إقتراح قانون لتعديل المادة 28 من الدستور التي تجيز الجمع بين الوظيفتين. ويبدو بإجماع الوسط، أن طرحه الجديد ينال تأييداً على مستوى كتل سياسيّة وازنة.
وإذا ما تقرّر إعتماد هذا المبدأ، سنَجد أن وزراء من الصقور سيخرجون من باب السراي ليدخلوا بابَ ساحة النجمة، كصقورٍ في كتلهم.
ويُهمَس لدى أكثر من مرجع، أن وزير الخارجيّة والمغتربين جبران باسيل، مرشح لايلاء الدور الأبرز في المرحلة المقبِلة لعملهِ النيابي كرئيس لتكتّل “لبنان القوي” الممثل للعهد، إستناداً إلى الاعتقاد القائل إنه “أمّن مقعدهُ النيابي”.
هذا الطرح يُقابله عودةً لحركة أمل عن تجاوز قرارها الداخلي الصادر عن مؤتمرها العام المُنعقد سنة 2010 والمتعلّق بفصل النيابة عن الوزارة، بتوزير النائب علي حسن خليل إستثنائياً، ما سيُسهَِم بتعزيز حضوره النيابيّ على مقاعد المجلس مزنّراً بدورٍ مُعزّز، وهذا قد ينطبق على حال وزير الداخليّة والبلديّات نُهاد المشنوق المرشّح للفوز بمقعد نيابي. وبالتالي تُصبح مقاعد الشخصيّات الثلاث شاغرة ومحالة لبورصة عرض الأسماء.
صحيح أنه يُسرّب عن الرئيس برّي التزامه ابقاء وزارة المال من حِصّته وتحديداً لشخص الوزير علي حسن خليل الذي أثبت جدارته، لكن أوساط سياسيّة لا تعتبر أن برّي مُتشدّداً حيال هذه الخطوة، بل يؤكّد المسار السياسيّ أنه “برغماتي” ويتقبّل الحلول كافة.
وفي رأيها، أن الرئيس برّي يُمكن له مقايضة الماليّة بوزارة سياديّة أخرى المرجّح أن تكون الداخليّة، بعدما شغل أكثر من إسم وزارة الخارجيّة سابقاً، ما يعني أن المُقايضة ستحصل بينهُ وبين تيّار المستقبل. وما يُعزّز هذه الفرضيّة ما جرى تناقله قبل فترة لدى أكثر من صالون سياسي، ويتعلّق بوعود مستقبليّة قُطعت للوزير السابق محمّد الصفدي للعدول عن قراره الترشّح للانتخابات النيابيّة وتجيير الدعم لصالح الأزرق.
عند ذلك، لن يكون هناك أفضل من اللواء إبراهيم لشغل هذا الموقع، إذ يتمتّع برصيدٍ كافٍ جناه من تعبهِ بملفات المفاوضات الشاقة التي خاضعها مع جهات ليسَ من السهل التفاوض معها، إضافةً لأنه يحوز على تأييد محلّي وقبول دولي، ويتمتّع بشخصيّة تمتاز بحِنكة سياسيّة وبرغماتيّة و “نفس طويل”، قد تجير إستفادةً على صعيد موقع سياسي رسمي كمنصب وزاري مثلاً.
ما يجعل “تسريبة” توزير اللواء إبراهيم في الفترة المُقبِلة قريبة إلى المنطق، هو ظهور مقوّمات تُؤسّس أو تُمهّد لها على صعيد المديريّة العامة للأمن العام، وأهمّها توفير البديل “المناسب” للواء الذي يُمكنه سدّ الفراغ، والذي يبدو أنه سلكَ مساره.
وتَلحظ الأوساط السياسيّة أن عضو المجلس العسكري في الجيش اللبناني – المدير العام للإدارة اللواء محسن فنيش، الذي اُحيلَ على التقاعد قبل فترة قصيرة، جرى تعيينهُ مؤخّراً بصفة مُستشار مدني في المديريّة العامة للأمن العام، ما حدا بمتابعين للظن أن اللواء فنيش قد يكون البديل الأوفر حظاً لخلافة إبراهيم، وتالياً المرشّح الأوفر حظاً لمنصب المدير العام للأمن العام.
عبدالله قمح