مع تنصيبه رسميا للمرة الرابعة كرئيس على عرش روسيا، يواصل فلاديمير بوتين القبض على مفاصل السلطة لمدة تتجاوز الـ24 عاما، متجاوزا فترة حكم فلاديمير لينين “7 أعوام” بكثير وعلى مسافة أقصر من حكم جوزيف ستالين “31 عاما” بقليل.
لقد قورن بوتين حتما بقادة الاتحاد السوفيتي والإمبراطورية الروسية عدة مرات كحاكم مطلق و”قيصر” يتحدث عن الأمجاد، وبالفعل يبدو أنه نجح كثيرا في الهيمنة على سياسات بلاده، فضلاً عن تأثيره على اقتصادها، وهذا دفع الناس في أجزاء من أوروبا بما في ذلك فرنسا وألمانيا وإيطاليا إلى النظر إليه باعتباره الرجل الأقوى في العالم، أما في بريطانيا والولايات المتحدة ، فيحمل دونالد ترامب هذا اللقب الآن، في إشارة إلى تأثير الرجلين على مسار القرارات الدولية خلال الفترة الراهنة.
رجل الدولة القوي
في خطاب التنصيب، قال بوتين 65 عاما الإثنين الماضي، كرئيس للدولة سأفعل كل ما بوسعي لمضاعفة قوة ورخاء روسيا، نحن بحاجة إلى اختراق في جميع جوانب الحياة، إنني مقتنع تماماً بأن مثل هذه القفزة إلى الأمام لا يمكن ضمانها إلا بمجتمع حر يقبل كل ما هو جديد ومتقدم.
تقول “الإندبندنت” في مقال نشرته تحت عنوان “فلاديمير بوتين يبدأ فترة رئاسية رابعة وما زال لديه الكثير ليفعله لتأمين إرثه”: قد يكون الخطاب مثاليا لهذه المناسبة، لكنه يعكس بعض الجوانب الرئيسية في عهد بوتين، إذ جاء وصوله إلى المشهد السياسي في أواخر التسعينات في الوقت المناسب، فقد كان يُنظر إليه على أنه الزعيم القوي الذي أراده الناس العاديون في وقت كان فيه الاقتصاد الروسي في حالة تذبذب مستمر، وكانت وظائف الدولة الأساسية تتفكك، والحروب الانفصالية مشتعلة في الشيشان وأماكن أخرى في القوقاز، فضلا عن الشعور المرير لدى الروس وقتها بأن بلادهم قد تعرضت للإذلال المتعمد من قبل الغرب منذ نهاية الاتحاد السوفيتي.
وتضيف جسد بوتين صورة رجل الدولة القوي، فهو ضابط الـKGB السابق وحامل الحزام الأسود في لعبة الجودو ورياضي من الطراز الرفيع، وفيما يتعلق بالسياسية عمل على استعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي واستنهاض الهمم في هذا الصدد، واقتصاديا استثمر في النفط والغاز، فجاءت العائدات الضخمة لتحقق الرخاء لسنوات طويلة، لكن في الجانب المظلم بنى بوتين دولة قمعية، إذ قلص دور الإعلام المستقل وطارد معارضيه بالنفي والاغتيال والسجن.
وبينما كانت الأضواء تعلو الكرملين وساحته، عشية حفل تنصيبه، قامت شرطة مكافحة الشغب ضد المتظاهرين في موسكو ومدن أخرى، باعتقال أكثر من 1600 شخص، أبرزهم المعارض أليكسي نافالني الذي منع من الترشح ضد بوتين في الانتخابات الأخيرة، لإدانته بالاختلاس، وهي تهمة ينفيها ويؤكد أنها ذات دوافع سياسية.
بوتين في الميزان
على الرغم من أن بوتين وصل إلى أبواب الكرملين هذه المرة بنسبة تاريخية 76% من الأصوات، إلا أن استطلاع رأي أجرته مؤسسة ليفادا المستقلة أخيرا يظهر أن 45 % من الروس يلقون باللائمة على الرئيس في عدم تحقيق توزيع عادل للدخل بين المواطنين، مقارنة بـ 39 % قبل ثلاث سنوات، في حين ارتفعت النسبة المئوية لغير الراضين عن الأجور المنخفضة والمعاشات التقاعدية والمزايا الاجتماعية الأخرى من 15 إلى 32%، وبحسب نتائج الاستطلاع يرى نحو 47% الروس أن أهم إنجازات بوتين تتمثل في استعادة بلادهم صفة الدولة العظمى المحترمة عالميا، واستقرار الوضع في شمال القوقاز بنسبة 38%.
يقول فاليري فيودوروف، المدير العام لـ”ليفادا”: إن الاستطلاع أظهر أن الروس ينتظرون من الرئيس تغييرات لا تفيد مجموعات ضيقة، بل طبقات واسعة من الروس، ونحو 59% منهم ينتظرون تحولات عميقة في البلاد، ويعتقدون أن التغييرات يجب أن تطال مختلف مجالات الحياة ومعظم المناطق والقطاعات، لكن في الوقت نفسه، سجلت شعبية بوتين في بداية شهر مايو الحالي مستوى قريبا من الحد الأقصى التاريخي، إذ وصلت إلى 82%.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، نجد بوتين أعاد التأكيد على “مجد روسيا” خلال السنوات الخيرة، عبر خطوات كان أبرزها ضم شبه جزيرة القرم ومواصلة الحملات العسكرية في القوقاز وأخيرا الوجود العسكري في سوريا، وكانت سرعة حسمه في تأييد الرئيس السوري بشار الأسد في ظل تخبط الموقف الغربي مع بداية شرارة الثورة عام 2011، سببا رئيسيا في زيادة رصيده على الصعيد الدولي، وعودة سوريا إلى الشرق الأوسط كلاعب رئيسي بعد عقود من الغياب، وهذا بالطبع على حساب دماء السوريين في حلب وحماة وكل المدن الثائرة.
هذه التحركات خارج حدود روسيا، جعلت علاقات بوتين مع الغرب أسوأ مما كانت عليه في زمن الحرب الباردة، ولم يفلح وصول ترامب إلى البيت الأبيض في تحسينها للأفضل، لا سيما بعد أن أجبر على اتخاذ مواقف أكثر صرامة مع موسكو للتنصل من فصيحة التدخل الروسي في انتخابات 2016، وبالنسبة للاتحاد الأوروبي فهناك اتهامات لموسكو بالتدخل في انتخابات فرنسا وألمانيا واستفتاء الخروج البريطاني عبر عمليات قرصنة إلكترونية، فضلا عن التوتر الذي أصاب العلاقات جراء أزمة ضم القرم، وأخيرا شهدت أوروبا حالة من الغضب العارم من سلوك إدارة بوتين، إثر تورطها في محاولة اغتيال الجاسوس السابق سيرجي سكريبال وابنته يوليا في وسط لندن.. لكن “القصير” لا تشغله انتقادات الغرب.
سيناريوهات 2024
ويرى خبراء أن بوتين خلال فترة الـ6 سنوات المقبلة، في حاجة إلى كسب حلفاء جدد لتأمين إرثه السياسي، ما قد يدفعه إلى إعادة تقييم للسياسة الروسية الخارجية، لاسيما مع الانسحاب الأمريكي من الصفقة النووية مع إيران وتهديد ترامب بحرب تجارية مع الصين، وعزمه على إجراء مباحثات مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، هذا فضلا عن العقوبات الأمريكية الجديدة التي طالت شركات وأشخاص مقربين من بوتين وتؤثر سلبا على الاقتصاد الروسي الذي يحقق انتعاشًا بطيئًا من الركود، وبالطبع هناك المأزق السوري الذي لا يبدو أنه قد ينفرج قريبا.
يقول الخبراء إن الرئيس الروسي ربما يشغله الآن أكثر من أي وقت مضى، الإجابة على سؤال ماذا سيفعل بحلول 2024؟، سوف يكون بوتين في الـ72 من العمر على مشارف الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبدون إجراء تغييرات دستورية، لن يتمكن من الترشح لفترة خامسة، كما أنه حتى الآن لم يفصح عن أي فرد من التكنوقراط أو المؤسسة الأمنية كخليفة له.
قد يعيد بوتين سيناريو عام 2008، عندما طرح ديمتري ميدفيديف كمرشح رئاسي، بينما كان يحتفظ بالسلطة الحقيقية كرئيس للوزراء، أو قد يلجأ لمحاكاة شي جين بينج في الصين ويلغي الحد الزمني للرئاسة، مما يسمح له بالبقاء رئيسًا مدى الحياة.
على الرغم من أن بوتين أصر خلال مقابلة صحفية في مارس الماضي على أنه لن يغير الدستور أبداً، إلا أن الرجل الذي قال في خطاب تنصيبه للمرة الرابعة “أؤكد لكم، أن الهدف الرئيسي من حياتي وعملي هو خدمة الشعب والوطن”، من الصعب أن يرحل ببساطة عن الكرملين في المستقبل القريب.
ولاء عدلان