أغلقت جريدة “الحياة” طبعتها البيروتية في الأول من هذا الشهر، مكتفيةً من الآن فصاعداً بالطبعة الخليجية. هذا خبرٌ مشؤومٌ للغاية، بالنسبة إليَّ شخصياً على الأقلّ. ثمّة أخبارُ شؤمٍ وكوارث كثيرة تقع في لبنان كلّ يوم وكلّ ساعة.
لكن غلق الطبعة البيروتية من هذه الجريدة، هو عندي نذير شؤم. إنه كارثةٌ معنوية تصيب الجوهر، وأهل الجوهر. لأن الأمر يتعلّق بتسكير جريدة في بيروت.
غلقُ صحيفةٍ كهذه في بيروت، لَأمرٌ يدعو إلى إعلان الوجع المعنوي والثقافي والفكري والمعياري، بصرف النظر عن تأثيرها وفاعليتها و… “هويتها”. قبلها، أغلقت جريدة “السفير” صفحاتها، وفضّلت الانطواء، مؤثِرةً أن تسدل الستار قبل التعثّر.
كان ذلك عندي بمثابة سكّينٍ في القلب. وهذه ليست مبالغة. انتبِهوا جيّداً: يجب ألاّ يستخفّ أحدٌ بنهايةً الرموز، بصرف النظر عن الرأي والمحتوى والموقف. بل بسبب التنوّع والاختلاف في الرأي والمحتوى والموقف. تنوّعٌ واختلافٌ كهذين، هما ضرورةٌ قصوى لوجود المعنى. لوجود كلّ معنىً جديرٍ بالحياة.
لذا أقول، إنه يعزّ عليَّ أن أخسر صحيفةً، أو طبعةً بيروتية لصحيفة. ويعزّ عليَّ أن يخسر لبنان هذه الطبعة – الصحيفة.
إياكم أن تستخفّوا بهذه المسألة. هي مسألة مشاعر حقاً، لكنها ليست للمجاملة. ليست عواطف رومنطيقية، عابرة وساذجة ومسطحة. إنها مشاعر ترتبط بالجوهر، بجوهر المعنى. والحال هذه، ليس كثيراً أن أهتف بملء كياني: ما أجمل الصحيفة.
ما أجمل ورق الجريدة. وكم أحبّ صفحاتها، حروفها، ورقها، حبرها، تبويباتها، إخراجها، وكم أعشق فكرتها ومبدأها. وكم أتمنّى أن أظلّ أغفو كلّ ليل، إلى أن يحين الموعد الأخير، وهي تستلقي – أي الجريدة – بين يدي، وتغفو، حالمةً بطبعة اليوم التالي.
يا حرام على لبنان. هذا ما أقوله بسبب جريدة. بسبب انطفاء الحبر في طبعة جريدةٍ بيروتية. رجاءً، لا تهزأوا بي، ولا تسخروا مني، ولا تشفقوا عليَّ. المسألة لها علاقة بالمعنى، بمعنى بيروت، عاصمة الحبر (هكذا كانت!).
كلّما خفت همسُ الحبر في مطابع بيروت، أحسستُ باقتراب النهايات. ليست نهايات الأشخاص والكتّاب والصحافيين فحسب، بل المدن، والأمكنة، والحقب، والمراحل، والأفكار، والثقافات، والمفاهيم، والقيم.
يجب أن نخاف. نعم. ويجب أن تخافوا. إذا ثمّة “عدوٌّ” رهيبٌ في الداخل، فهو أن يخسر لبنان المعنى، وأن يُجوَّف هذا المعنى، فلا يبقى سوى الجمجمة، مرتعاً للبوم والذكريات.
كوارث كثيرة تقع كلّ يوم في لبنان. خافوا، في شكلٍ خاص، الكوارث المعنوية. واحذروها. وحاوِلوا درءها قبل وقوعها. إذا وقعتْ، تجنّبوا مفاعيلها الارتدادية.
احذروا المفاعيل، وحافِظوا على الصحف (خصوصاً غير الصفراء). ولا تنسوا “النهار”. ليس من أجل “أهلها”، بل من أجل المعنى. ومن أجل لبنان.
عقل العويط