بدأ على مهل، كجدّة تحوك صوفاً حول المدفأة. خيطٌ فخيطٌ، أشبه بالتحايل على اللاشيء. ثم تراءى أنّ البطء مُتعمّد لرسم بورتريهات الشخوص المتهالكة. كاميرا رشا شربتجي في العادة لا تلعب بأيّ نار. تُمسك لهيبها وتحوّله شعلة ضوء، وإن كان النصّ أمامها بحجم شعاع (النصوص التلفزيونية تضعف أمام الروايات الأدبية الكبرى). “طريق” خارج منطق الدفعة الواحدة والصدمة الضرورية.
يتمهّل في التعامل مع الإشكالية، لا يملك علاجات سحرية ولا أجوبة جاهزة. مسلسل (تأليف فرح شيا وسلام كسيري، مأخوذ عن “الشريدة” لنجيب محفوظ، “أم تي في”، “أم بي سي 4”) مغاير للمشهدية الرائجة، التعلُّق به ليس وليد الفجأة، بل يُنسج باكتمال اللقاء بين العقل والقلب.
تغنّي هبة طوجي الشارة الرمضانية الأجمل، عن طرقنا المسكونة بالظلّ والتيه والدعسة الناقصة. يتطلّب الأمر وقتاً لبناء علاقة واضحة مع العمل. ولعلّه من أقرب المسلسلات إلى الواقع الإنساني المأزوم، القائم على المصلحة والبشاعة وعمى البصيرة. البطلان متألقان من النَفَس الأول أمام “التوب كاميرا”، إلى “الكات” وإطفاء الضوء.
نادين نجيم بدور أميرة بو مصلح و #عابد_فهد بدور جابر سلطان. نقيضان على دفّتي مركب يغرق، زواجهما شمّاعة تُعلّق عليها أسئلة الإنسان عن الظرف والمستقبل.
تتمهّل شربتجي في وضع الحجر الأخير على بناء الشخصيتين. تبدأ من الصفر، من الفقر والأسى وحسابات الليرة. لم تكن أميرة على هذا القدر من الراديكالية. يضعها ماضيها أمام ردّ فعل من صنف الإكستريم، فتتسلّق الجبال على أكتافٍ مُتعَبة. تقنع حدّ الرغبة في صفعها. هنا الإنسان أمام ضعفٍ يحاول “ترقيعه” بتضخيم القوّة وإلحاق الألم بالآخر.
المسألة في أنّ الضدّين لا يلتقيان ولو اتّخذا شكل أميرة وجابر. المسافة بينهما لا تُقاس بالكيلومترات. بالهوّة السحيقة والصدى البعيد حداً مخيفاً.
العالم مليء بالبشر العاجزين عن بناء علاقات جيّدة. رجل كجابر، مُعذّب بالخذلان، حين تزوّج، لم تعد السماء تمطره حجارة، بل صخراً. والصخرة بأوزان ثقيلة. ممتاز بإمساك الشخصية، لكنّه في لحظات يُفلتها، فيقع في قبضة المبالغة. وهي عادةٌ تتربّص بكلّ كاراكتير متفوّق، وتحاول الإجهاز عليه.
جابر من ماضٍ مُعبّأ بالذنوب، ذنب العائلة والفرصة والقدر. رأى في أميرة مُخلّصاً، ورأته صيداً ثميناً. كلاهما أخطأ في حقّ نفسه قبل أن يترك آلاماً في الآخر. أميرة بانجرافها خلف مبدأ الغاية تبرّر الوسيلة، وجابر بتأجيج الشرخ وتقليص احتمالات الوصول إلى نتيجة.
يطرح المسلسل عناوين كبرى من عمق الطبع الإنساني: الاستئثار، التسلُّق، المصلحة، الفوارق الاجتماعية، الذرائع، والمبررات حيال السلوك الفظّ. يحلّق، لكنّه أحياناً يقع ضحية مطبّات هوائية. هنا الزواج لا يكون مَخرجاً، بل بمثابة تأكيد على أنّ الجحيمية في المرء بذاته، لا في النمط الاجتماعي المفروض عليه.
يمنح جابر أميرة كلّ شيء: الشفاء من تشوّهها، العيش بمكان أفضل، العمل من دون مضايقات خارجية، والأمومة وإن أرادت تأجيلها. لكنّه لم يمنحها الاكتفاء العاطفي، فلم تمنحه السعادة. امرأة تحالفت مع العُمر ضدّه، فأهملت تفاصيله واهتماماته ووجوده ومشاعره.
تختزل الأنانية باللامبالاة حيال سعاله وعدم الاطمئنان إلى صحّته. نحن أمام امرأة لا تكنّ المشاعر لشريكها، تتصرّف بنكران تام لحضوره ومكانته. على هامشهما، ريتا حرب (رغدة) في دور مُتقَن، رغم مشهد الخيانة الساذج وردّ فعلها المضحكة مع دخول أميرة. هي كائن حربائي رخيص، تُعرّض نفسها للحظات حرجة، تدوس على الكرامة من أجل الغاية.
ترتمي أمام رجل ليس لها، وتمارس الشعوذة المريضة. تتّخذها أميرة ذريعة للادّعاء بأنّها دائماً على حقّ، فتكثّف الذنب في ضمير جابر، وتزيده انهياراً وعصبية. ملعونتان، ترشقانه بمياه مغلية.
النساء في المسلسل معرّضات للخسارة، يسرن إليها بأقدامهنّ. نهلا داود بدور مريم (أعمق أدوارها الرمضانية وأقلها مغالاة) الباحثة عن رجل يسدّ فراغاتها، ختام اللحام بدور الأم المُرهَقة، المحتاجة إلى استراحة طويلة، وملء وقتها بغير القلق والهواجس والإفراط في التدخين.
وفاء موصلّلي بدور سعاد، المثقلة بأشباح الماضي، ورعب الحقائق المُستترة، المتعايشة مع رجل انتهازي (أليكو داود)، ميت الضمير، يتاجر باللحوم الفاسدة.
وزينة مكّي بدور عبير، أقلّ دفعاً للأثمان الباهظة، نجاتها من حادث سير وزواجها بشاب تحبّه (جنيد زين الدين)، يجعلانها رابحاً مُحتملاً في الوقت بدل الضائع.
ليست المسألة في تناوله المعكرونة على هذا الشكل أمام أصدقائها، ولا في أزيائه ونرجيلته وخواريفه، بل في استحالة تقبُّل أحدهما الآخر واستبدال الحبّ بالنفور والإحراج. أميرة وجابر نموذج للاحتضار، وحقيقة أنّ كلّ ما بُني على باطل فهو باطل.
فاطمة عبدالله