21 حزيران يوم كسائر الايام. يمرّ من دون أن يتوقف عنده أحد. إنه عيد الأب. هل تذكرون أو تتذكّرون. قليلون من يتذكّرون. وكثيرون من يتجاهلون، ومن بينهم بالطبع الأبناء المنشغلون بأمورهم الشخصية وغير المكترثين وغير مبالين.
في 21 آذار عيد الأم. لا أحد لا يتذكّره. فيه تكثر الهدايا والحفلات. فهي تستأهل أكثر من ذلك.
ولكن في المقابل فإن الأب الذي يتجاهله الجميع، حتى أهل بيته، يستأهل أيضًا أن يكّرم في عيده، وهو الذي يضحّي بالمقدار نفسه الذي تضحّيه الأم.
قرأت مؤخرًا إعترافًا من سيدة إكتشفت بعد خبرة طويلة كم يعاني الأب ويضحي من أجل إسعاد جميع من حوله من أهل بيته، وإن كان هذا الأمر على حساب راحته وسعادته.
مسكين هذا الأب الذي يعمل من “الفجر حتى النجر”، من دون تأفف أو تذمرّ، حتى يؤمن لأفراد عائلته كل ما يحتاجون إليه.
فهو يضحي بحياته، من أجل أن يرى الابتسامة على وجوه أبنائه.
يجهد لتأمين مستقبلهم، ولا يترك مصرفًا إلاّ ويقترض منه، ثم يبقى يسدد هذه القروض طوال حياته.
لا ينفك عن التنازل عن حقه في التسويات ويسعى دائمًا إلى تدوير الزوايا لإراحة وإسعاد جميع من حوله.
في المقابل، إذا خرج للترفيه عن نفسه قليلاً، يُعتبر إنسانًا غير مسؤول. وإذا بقي في المنزل فيدرج في خانة الرجال الخمولين والكسالى.
وإذا وبَّخ أبناءه حين يخطئون ويهملون واجباتهم يُعتبر في غاية القساوة. وإذا لم يوبخهم فهو متساهل إلى حدود “الهرقة” والدلع.
إذا بالغ في إحترام زوجته وتقديرها وإيفائها حقها فهو من صنف الرجال المسلوبي الإرادة وعديمي الشخصية، والذي يقبل بأن ينصاع لإرادتها.
وهنا تحضرني سالفة تروى عن أحد الملوك، الذي حاول أن يعرف من في مملكته رجال بكل ما للكلمة من معنى، فطلب من وزيره أن يمرّ على كل بيت من بيوت مملكته، ويأخذ معه دجاجات وأحصنة. فمن يثبت أنه رجل لا كل الرجال يُعطى حصانًا. ومن يفتقد لمزايا الرجولة لا يستحق سوى دجاجة.
لف ذاك الوزير ودار على كل البيوت فلم يجد من يستحق أن يعطى حصانًا، وبالتالي لم يعد في حوزته سوى القليل من الدجاجات. وهو عائد إلى القصر لإبلاغ الملك عن نتيجة يومه الطويل لمح بيتًا في آخر الغابة. قصده وهو في غاية التعب واليأس. وبعد حديث قصير مع رب العائلة وجد أنه يستحق حصانًا. طلب منه أن يخرج إلى باحة المنزل لإختيار الحصان الذي يعجبه. نظر وأحتار في أمره, وطلب مشورة زوجته. عندها قال الوزير للخدم: أعطوه دجاجة!
وعلى رغم ذلك، وعلى رغم كل ما يقال، وعلى رغم الإجحاف اللاحق به، فالأب هو الوحيد في العالم الذي يتمنى أن يصبح أولاده أفضل منه في كل شي، وهو الذي يرضى عن أولاده ويدعو لهم بالخير وهو في قمة خيبة أمله منهم، وهو الذي يتحمل أبناءه صغاراً حتى ولو داسوا على قدميه، ويتحملهم كباراً حتى ولو داسوا على قلبه، وهو الذي يعطي أولاده أفضل ما يملك بل كل ما يملك، إن لم يستطع أن يُقدم لهم أفضل ما في العالم، وهو الذي إذا طلب أولاده منه أن يأتي لهم بنجمة من السماء، يحضر لهم الشمس والقمر والنجوم، بل يحاول أن يحضر لهم حتى السماء إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
هذا ما أعترفت به تلك السيدة التي خلصت إلى نتيجة واحدة أن الأب في حياتها وحياة أولادها كل شيء. فقبله لا قبلُ. وبعده لا بعدُ.
كل عيد أب وجميع الآباء بخير… فهل تذكرون وتتذكّرون؟
اندريه قصاص