رائحة الموت تفوح من قصر عدل بعبدا

تستعير القوى السياسيّة عبارة الاصلاح وبناء الدولة من الدول المتحضّرة ثم تتباهى بها مستندةً الى ما أنجزت تلك الدول، فهل يصلح تعميم ذلك على لبنان؟!

يتساءل حقوقيون كيف لساسة ان يدعون العمل لبناء دولة وعدلها يفقد أساس ملكه، إذ يصعب العثور على صرح واحد يصلح لاتخاذه بناء للعدل يحكم ويشرّع بين الناس؟

ما جرى في قصر عدل بعبدا لمدة ثلاث أيام متتالية يكاد يجبر المرء على لعن الدولة بكل ما فيها وقد يصل به الامر حد الكفر والاشراك بها، كيف لا وقصراً خصص للعدل يرزح تحت وطأة انقطاع التيّار الكهربائي!

قد تجد في مكان ما ان اللبناني قد تكيّف مع انقطاع الكهرباء الذي واكبه منذ نعومة اظافره الى حدٍ بات الراشد لا يتذكر المرة الأخيرة التي شهد فيها على وجود الكهرباء لمدة 24 ساعة! لكن يصعب ان تجد مواطناً واحداً يستطيع التكيف مع هذه الحقيقة في صرح يفترض انه يصل لمرتبة القداسة.

في قصر عدل بعبدا تطبق نظرية “الحاجة أم الاختراع” على أكمل وجه، فيتحول القضاة الى مساعدين للكتاب والموظفين، والمحامون يتحولون الى عمّال صيانة، وكل ذلك من أجل تسيير شؤونهم. تغيب الانارة وتحل مكانها مصابيح الهواتف املاً باختراق العتمة او تنير درب من يبحث بين أكداس الأوراق عن ملف ما. يمكن ان تهضم بعض هذه الأمور باعتبار أن المشكلة ليست وليدة الأمس، وقد اعتادها المواطنون، بشكل تصاعدي، لكن ما لا يمكنه هضمه هو العقاب الجماعي الذي عاشه الموقوفون لثلاثة ايام.

تكشف مصادر “ليبانون ديبايت” من داخل قصر عدل بعبدا عن تدخُّل القدرة الالهية في نجاة الموقوفين داخل النظارة، الذي اختبروا الاختناق مرات بسبب ارتفاع درجات الحرارة وغياب التيار الكهربائي الذي أدى بأجهزة التبريد والتهوية الى الهلاك.

تعالى الصراخ من النظارة الموجودة تحت الأرض مع ارتفاع درجات الحرارة التي لامست 40! كأن من هم “تحت” يستنجدون ويستدعون من يحاول انقاذهم. اي نوع من الاذلال هذا حتى ولو كان الشخص مذنباً؟!

ليس فقط المساجين من أُهينوا بل القضاة والمحامون ايضاً، هؤلاء تصبّبوا عرقاً وهم في ثوبهم الحقوقي امام موكليهم، أي نوع من الإهانة هذه؟

يتبين بعد بحث وتدقيق أن سبب انقطاع التيار الكهربائي تعود اسبابه لتردي حالة المبنى وغياب الترميم والاصلاح، إذ مضى على تمديدات اسلاك الكهرباء 40 عاماً لم تجد حلاً لوضعها سوى الاستسلام امام مصير الاحتراق، فتفحمت الاسلاك داخل الجدران.

لماذا تغيب ورشة الاصلاح؟ أين التلزيمات والمناقصات في بلد يقاتل مسؤولوه على مناقصة الكهرباء أشهراً طويلة؟ سرعان ما يأتي الجواب أن آخر مناقصة فاز بها متعهد تعود لعامين سابقين، لكنها بقيت حبراً على ورق نتيجة عدم حصول المتعهد على اذن مباشرة، ما دفعه لسحب تكليفه. من المسؤول؟ من المتهاون ومن المستفيد؟ لا تجد جواباً.

رئيس هيئة التفتيش المركزي القاضي جورج عطية وضع يده على الملف بعد تحرّك قام به المحامي الناشط حسن بزي. ما ابلغه بزي لعطية، وفق معلومات “ليبانون ديبايت”، أثار استغراب الاخير، ما دفعه لتشغيل محركات البحث عن الأسباب. وقام بتوزيع الاتصالات يميناً ويساراً لإيجاد الحلول وتحديد المسؤولين، حتى بلغت تحركاته وزارة العدل التي طلب إليها اعداد ملف كامل عن التقصير.

ووفق معلومات “ليبانون ديبايت” تبين للقاضي عطية وجود تقصير فاضح، وبناءً على ذلك اعطى اوامره بملاحقة وتتبع الموضوع ومحاسبة المقصرين”.

يكشف المحامي بزي لـ”ليبانون ديبايت” عن أن المساجين الموقوفين في النظارة لامسوا مُرّ الموت عدة مرات، وهو ما دفعه للتواصل مع القاضي عطية وابلاغه بما رأى. فما كان من الاخير الا ان تحرّك موعزاً تأمين خط كهرباء بديل للنظارة مع تأمين وسائل تهوية، فجرى تأمين التيار لهذه البقعة الصغيرة فقط.

ماذا عن تلك الأكبر؟ يجيب بزي “الموضوع يحتاج لمناقصة، اساسًا قصر العدل لا يصلح لأن يكون مقراً لقضاة منفردين فكيف يتم اعتماده كمركز شامل لغالبية محاكم جبل لبنان على اختلاف درجاتها؟”.

أضف إلى هذه المأساة هناك أخرى، إذ يحذر بزي من حصول كارثة تصيب القضاء جراء الاستمرار في استخدام المبنى المجاور الملحق بقصر العدل لكونه قابل للسقوط وفقاً لتقارير موثقة. وتساءل لماذا لم يتم إخلاؤه لغاية تاريخه، وهل تنتظر الدولة وقوع الكارثة وموت القضاة والمحامين والموظفين والمراجعين حتى تنقل المبنى؟

الموضوع اذاً يحتاج لمناقصة، ولمبنى جديد كي تُنشأ الدولة وفق ما يشتهي سياسيوها الممعنين بضرب القضاء والتدخل به من قصورهم المشيّدة على التلال بينما ترزح قصور العدل في اوضاع اقل ما يقال عنها انها مزرية تجتاحها الحشرات والروائح الكريهة والاهمال وغياب الصيانة.

عبدالله قمح

اخترنا لك