هل إنّ المسدّس الاقتصادي موجّهٌ فعلاً إلى رأس لبنان، وإنّ احتمالَ انطلاق رصاصتِه بات مسألة وقت (بضعة أشهر)، وحينها يحلّ «خراب البصرة» الاقتصادي والمالي؟ أم أنّ هناك مَن يُهوّل على لبنان لجعلِ مجملِ العملية السياسية اللبنانية أسيرةَ الروزنامة الاقتصادية الضاغطة، علماً أنّ الوضع الاقتصادي لا يزال تحت السيطرة، وكلّ المطلوب هو معالجة هادئة ومسؤولة ولا تَستسلم لمعالجات تتمّ تحت التهويل بنفاد الوقت.
كيف تجيب الوقائع والأرقام الاقتصادية منذ مؤتمر «سيدر» حتى الآن على هذين السؤالين؟:
خلال مؤتمر «باريس 4» ( سيدر) وضع صندوق النقد الدولي فعلياً على الطاولة مبلغ 11,5 مليار دولار قروضاً للبنان، ولكنه في المقابل وضع على الحكومة اللبنانية شروطاً عدة عليها إنجازُها ليصل اليها هذا المبلغ:
• أولاً، رفعُ الضريبة على القيمة المضافة من 11 في المئة الى 15 في المئة.
• ثانياً، زيادة 5 آلاف ليرة على صفيحة البنزين وعودتها الى السعر الذي كانت عليه سابقاً.
• ثالثاً، زيادة تعرفة الكهرباء 40 في المئة تتزامن مع إصلاح قطاع الكهرباء وإلغاء المولدات.
• رابعاً، زيادة الضرائب الجمركية.
• خامساً، زيادة الضرائب على التسجيل العقاري وانتقال الملكية، إضافةً إلى ضرائب أخرى.
واعتبَر صندوق النقد الدولي أنّ التهرّبَ الضريبي في لبنان يبلغ نحو 5 مليارات من الدولارات سنوياً. وهي قيمة الضرائب التي يُفترض على الحكومة أن تجنيَها من عائدات الشركات والمؤسسات وأرباحها، إضافة إلى الأجور. ووفق حسبةِ صندوق النقد الدولي، فإنه إذا كان الناتج المحلّي اللبناني هو 54 مليار دولار والأرباح والأجور 30 مليار دولار، فإنه يصبح هناك نحو 25 مليار دولار خاضعة للضرائب الرسمية.
ولمّا كانت نسبة الضريبة الرسمية على الشركات والافراد هي 12 في المئة فإنّ الجباية يجب أن تكون 3 مليارات من الدولارات سنوياً، فيما الجباية الحالية تبلغ مليار دولار سنوياً فقط. وتخلص حسبة صندوق النقد الدولي الى أنه إذا تمكّنت الحكومة من تحسين الجباية بمبلغ مليارَي دولار سنوياً، فهذا يعني أنّ عجز الدين سينخفض الى 2 مليار دولار سنوياً.
ما تقدَّمَ أعلاه هو موجز وصفة صندوق النقد الدولي للحكومة اللبنانية في مؤتمر «سيدر»، من أجل خفضِ عجز الدين وكشرطٍ مسبَق عليها تنفيذُه لمنحها قروضاً بقيمة 11,5 مليار دولار. واعتبَر صندوق النقد الدولي أنّ على الطبقة السياسية اللبنانية أن تتّخذَ إجراءاتٍ جريئة وغير شعبية لتنفيذ وصفتها التي هي خلاص البلد الاقتصادي.
في المقابل، وعدت الحكومة اللبنانية في مؤتمر «سيدر»، بتدشين مسار يؤدّي الى خفض نسبةِ الدين البالغ 9 في المئة من الناتج القومي، وذلك بمعدّل نقطة واحدة كلّ سنة، وخلال فترة تسعِ سنوات. ولكنّ خبراء اقتصاد ومصرفيين لبنانيين، يعتقدون أنّ تنفيذَ وعد الحكومة اللبنانية يقرب من أن يكون مستحيلاً من منظار عملي.
وفي الوقت نفسه يعتبرون أنّ تطبيق وصفة صندوق النقد الدولي ليست بالأمر السهل، لأسباب مركّبة سياسية واقتصادية. ولكنّ هؤلاء يعتقدون أنه تبقى هناك إمكانية لتحسين الجباية في الجمارك والقطاع العقاري وفرض ضرائب على الأرباح والأجور مع إصلاح القطاع الكهربائي الذي يؤمّن تخفيض العجز فيه والبالغ حالياً مليار ونصف مليار دولار سنوياً.
وفي مقابل وصفةِ صندوق النقد الدولي «الصعبة التنفيذ»، والحكومة «المستحيلة التنفيذ عملياً»، تؤكّد مراجع العملية المالية والنقدية في لبنان أنّ في ظلّ هاتين الوصفتين، يوجد حالياً «خطّا دفاع أماميان» أو «صمامّا آمان» يمنعان الانهيار الاقتصادي، وتوجد الى جانبهما على المدى المتوسط ( بعد خمس سنوات) آفاق أو نوافذ اقتصادية مستقبلية واعدة ستؤمّن مداخيلَ مالية إنقاذية للبنان:
الخط الأوّل: طالما أنه تصل الى المصارف اللبنانية سنوياً تحويلات بالعملة الصعبة بقيمة 8 مليارات من الدولارات، فهذا يعني أنّ القطاع المصرفي اللبناني يستمرّ قادراً على تمويل دين الحكومة. وهناك إشارة مطَمئنة هذه السنة على هذا الصعيد، ذلك أنه خلال الأشهر الخمسة الاولى من السنة الجارية بلغَت قيمة التحويلات الخارجية بالعملة الصعبة الى لبنان 3,7 مليارات دولار.
الخط الثاني: لدى مصرف لبنان المركزي قدرة احتياطية تبلغ 12 مليار دولار من الذهب، وما قيمته 54 مليار دولار من العملة اللبنانية المطروحة في السوق اللبناني. وطالما أنّ عمليات التحويل من الليرة الى الدولار لا تصل خلال دفعة واحدة أو في وقتٍ متقارب الى نسبة 80 في المئة من مجموع الكتلة النقدية الاحتياطية بالعملة اللبنانية في البنك المركزي، فإنّ الأخير يبقى مسيطراً على سعر صرفِ الليرة ومجال العملية النقدية في البلد.
والإشارة المهمّة في هذا المجال هي أنه خلال أعتى الأزمات الأمنية والسياسية التي مرّت على لبنان لم يَحدث «هلع نقدي»، بمعنى بروز طفرة تحويل من الليرة الى الدولار، أو خروج رؤوس الأموال بالعملة الصعبة من لبنان ومصارفه الى الخارج وصَلت الى حدّ الخط الاحمر، أي نسبة 80 في المئة. فخلال حرب تمّوز 2006 وصلت نسبة التحويل للدولار الى 30 في المئة. وخلال أزمة استقالة الحريري الأخيرة وصلت الى 5 بالمئة فقط.
أمّا نوافذ الاقتصاد الواعدة للبنان خلال المدى المتوسط، أي بعد خمس سنوات حسب توقّعات سياسة – اقتصادية، فهي اثنتان: النفط والغاز البالغ مخزونه داخل المياه الإقليمية اللبنانية ما قيمته 200 مليار دولار، غير أنّ حركة الإنتاج لهذا الأفق الاقتصادي لن تبدأ قبل خمس سنوات.
الأفق الاقتصادي الثاني الواعد سيكون موعده مع بدء الحلّ السياسي السوري، ما يَضمن للبنان الاستثمارَ في إعادة إعمار سوريا وعودة فتح طريق الصادرات اللبنانية إلى دول الخليج والعرب عبر بوّابة الممرّ السوري البرّي (تبلغ 25 في المئة من مجمل صادرات لبنان) إضافةً الى عودة الاستثمار اللبناني في قطاع الخدمات المصرفية السورية وتدفّق السيّاح إلى لبنان برّاً عبر سوريا.
ناصر شرارة