سيدر يموّل سرطَنة لبنان

أعاد تهريب مشروع قانون الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة في جلسة اللجان المشتركة شبح المحارق إلى الواجهة من جديد. ويُجمع البيئيون على أن المحارق من أخطر أنواع المعالجة.

ويتسائل هؤلاء عن امكانية حكومات الناعمة والكوستابرافا وبرج حمود، التي في تاريخها 30 عاماً من السمسرة والمتاجرة بصحة اللبنانيين وسلامة بيئتهم أن تكون محلّ ثقة للإشراف على هذا النوع من المعالجة التي تشكل عنواناً عريضاً لسرطنة لبنان.

علامات استفهام كبيرة تحوم حول سبب الاسراع في إقرار هذا المشروع في هذا الوقت بالذات، وتمريره بهذه الطريقة التي قطعت الباب على أي مناقشة علمية وتقنية لمواده. ويربط مرجع بيئي عملية تهريب القرار بهذه السرعة القياسية بمؤتمر “سيدر”، إذ تم تحديد مبلغ من التمويل للمحارق، “فالجهات الممولة تريد بيعنا 3 محارق كبيرة يبلغ سعر الواحدة 375 مليون دولار. لذلك يبدو أنه تمت ممارسة الضغوط على المجلس النيابي لإقرار قانون يشرّع دخول المحارق إلى لبنان”.

ويرجّح المرجع ألا تكون محرقة بيروت التي كلفتها 250 مليون دولار ضمن هذه المحارق الثلاثة، ما يرفع عدد المحارق التي يمكن إدخالها إلى لبنان إلى أربع محارق، وهي التي لها أن تؤسس، مع إدارة سيئة وفاشلة، للبنان مسرطن.

وعن إقرار المشروع، يقول رئيس جمعية “الأرض لبنان” بول أبي راشد: “تفاجأنا بتحول القانون الذي ننتظره منذ 20 سنة من قانون إدارة مستدامة للنفايات إلى آخر لتسهيل دخول المحارق والخصخصة والصفقات على الرغم من أننا كنا كبيئيين متأملين خيراً بموافقة السلطة على طرح الاتحاد الاوروبي الذي سعى إلى شبه حوار وطني لإصدار القانون الأمثل لإدارة النفايات. على أن تكون البلديات والخبراء والصناعيين والمجتمع المدني شركاء في هذا الحوار مع النواب، وكنا مطمأنين أنهم لم يقروا القانون قبل عقد اجتماعات من هذا النوع”.

ويؤكد أبي راشد لـ”ليبانون ديبايت” أنه بحسب مسودة مشروع القانون التي هي بحوذة البيئيين، هذا المشروع لا يراعي الهرم البيئي التسلسلي لمعالجة النفايات. وهو مشروع تدميري للزراعة والصناعة في لبنان، لأن حرق النفايات من دون اعتماد التدوير يضر بالقطاع الصناعي، كما أن عدم اعتماد التسبيخ يضر بالقطاع الزراعي.

ومع اعتماد المحارق هناك خطر انبعاث للمواد العضوية مثل الديوكسين والمعادن الثقيلة مثل الكادميوم والزئبق، وجزيئات الغبار والغازات الحمضية مثل ثاني أوكسيد الكبريت وحمض الهيدروكلوريك. وهي الانبعاثات التي لها تأثير ضار على الصحة العامة وفيها جزئيات مسرطنة. واخطر ما في محارق النفايات هو رماد أسفل المحرقة والمداخن، والذي ينبغي التعامل بحذر معه على اعتباره من المواد السامة جدا.

وتتركز الانبعاثات السامة والمواد الخطرة في الرماد المتطاير وقد تشكل مشكلة بيئية وصحية ما لم يتم التعامل معها بشكل دقيق جدا قبل التخلص منها في مكبات خاصة غير متوفرة أصلا في لبنان، الأمر الذي سيؤدي الى تضاعف خطر الإصابة بالسرطان والأمراض المزمنة الأخرى إلى مستويات ملحوظة.

مخاطر المحارق، تبعاً لدراسة أعدها حزب الخضر اللبناني استناداً الى دراسات عالمية عن محارق النفايات، “ملوثة” ينتج عنها 20 % رماد منه 5% Fly Ash وهي بحسب الشركة الاستشارية المعتمدة Ramboll مواد سامة ينبغي معالجتها وفق طرق خاصة قبل طمرها.

وعلى سبيل المثال يتم ترحيل هذه المواد السامة الناتجة عن مراكز التفكك الحراري في الدول الأوروبية الى مطامر خاصة لهذا الغرض في ألمانيا والنروج. وبحسب الوكالة الأميركية لحماية البيئة، محارق النفايات هي المصدر الرئيسي لانبعاثات الديوكسين في البيئة.

كما أن المحارق، وبحسب الدراسة “مدمرة” كون المواد التي ستوضع في المحارق كالبلاستيك والحديد والورق ونفايات الحدائق لها قيمة أكبر إذا ما استعملت كمواد خام بدل استعمالها كفيول للمحارق.

وتتعارض مع اتفاقية استكهولم، التي صدقها البرلمان اللبناني العام 2002، والتي تقر أن جميع محارق النفايات تشكل مصادر أساسية للديوكسين، وهي مواد مسرطنة. وتعهدت الحكومات إلغاء هذه المواد الخطرة واللجوء الى وسائل بديلة لإدارة النفايات التي تحول دون إنتاجها بحلول العام 2025.

وتبين الدراسة أن المحارق خصوصاً الحديثة منها هي أغلى حل للتخلص من النفايات، وتفرض أعباء ماليّة ضخمة على المجتمعات المحليّة للإنشاء والتشغيل، اضافة الى مصاريف صيانة باهظة. فعملية الحرق تقنية معقدة تتطلب خبرات عالية ومتخصصة بالرقابة وبالتشغيل لا يمتلكها لبنان. وهناك معدلات عالمية للانبعاثات لا يجب تجاوزها، ومن الصعب والمكلف جدا المحافظة عليها، مما اضطر عدد من المحارق في البلدان المتقدمة للإقفال بسبب إخفاقها في عدم تجاوزها.

علماً أن المحارق تعتمد على رأس المال والتقنيات والخبرات الأجنبية اكثر منها على اليد العاملة المحلية. وتستلزم مستشارين وخبراء مختصين في عملية التشغيل والصيانة والمراقبة يفتقر لبنان لخبراتهم، واستقدام هؤلاء من الخارج سيكلف الكثير من الأموال سنوياً.

كما أن تزايد المعارضة لفكرة المحارق في العالم دفع الكثير من الدول لإقفالها. في الولايات المتحدة تم إغلاق أكثر من 300 محرقة منها منذ العام 1985، وفي فرنسا أغلقت 200 محرقة، وفي الفلبين آلت الاعتراضات على خطط لبناء أكبر محرقة نفايات في العالم إلى إقرار حظر تام على المحارق العام 1999. كما قام عدد من الولايات والحكومات المحلية في كندا ونيوزلندا والأرجنتين بمنع حرق النفايات منعاً تاماً.

فهل يعقل أن يتجه لبنان إلى اعتماد المحارق لحل أزمة نفاياته بأغلى كلفة صحية ومالية، بعدما اثبتت التجارب العالمية فشل هذا الحل وخطورته؟ وهل يتحمّل
العهد “القوي”، الذي يعوّل عليه كثيرون، وزر سرطنة البلد؟

نهلا ناصر الدين

اخترنا لك