لم يسبق أن تحرّكت البيئة الشيعية على نفسها منذ فترة طويلة، اقله منذ العام 2004 تاريخ آخر تحرّك داخلي شهدت عليه الانتخابات البلدية بين حزب الله وحركة أمل. بعد ذلك دخلت الحقبة الشيعية في متغيرات داخلية طارئة فرضتها الظروف السياسية الموضوعية والشعبية المتداخلة مما اسهم في الخروج الكلي عن حقبة نزاع التسعينات.
عند حزب الله ثمة مبدأ راسخ لا يخضع للقاعدة المتحرّكة يقوم على إلزاميّة الوحدة الشيعية كعامل اساس في سياق النهوض الشيعي العام. وفي وجدانه العملاني لا ينظر الى العلاقات الشيعية – الشيعية من خلفية سياسية بل ثقافية تتجاوز الأطر التفاهمية الظرفية الى تلاحم مبني على ركائز فقهية – دينية.
حتى ان منظّري هذه الحالة وصلوا الى قناعة مفادها ان تطور المقاومة في مجرى الزمن نابع من تلاحم المصير الشيعي المشترك، حتى انها كادت تصبح متلازمة بين عاملي الوحدة والمقاومة. وفي قراره أنفسهم انه وفي حال وقع الخيار على المفاضلة مثلاً بين المقاومة بكل ما تحمل من مفاهيم والوحدة الشيعية بكل ما تحمل من مفاهيم، يصار الى تفضيل الوحدة الشيعية على المقاومة!
انطلاقاً من هذه القاعدة يفهم مقدار تمسّك حزب الله بالوحدة، وانطلاقاً منها ايضاً يفهم سكوته عن الكثير من الامور التي تحصل ضمن البيئة الشيعية ولا يحرك ساكناً في غالبية الأحيان تجاهها إلا إذا وصلت لحدود يعتبرها مس بالوحدة الشيعية، عندها قد تجد موقفاً واضحاً او تراجعاً تكتيكياً.
قد لا تتلاءم هذه القاعدة وتطلعات الجانب الشيعي الاكبر الساعي للتمكين في بيئاته الداخلية بعد ان تمكن خارجها، ودائماً ما يجد عاملاً يعرقل عليه تطوره، يقوم على الفساد المستشري داخل الطائفة والمحمي من ساسة واحزاب، وهو التحدي الابرز الذي يجهد حزب الله من اجل استنباط طرق معالجته بعد ان أعلن أمينه العام السيد حسن نصرالله عدم تلازم مسار المقاومة مع الفساد وبالتالي استعداده لخوض الحرب ضده.
ثمة جدل قائم في داخل غرف الحزب المغلقة منذ مدة حول كيفية مقاربة هذه الملف. وعلى وجهٍ ادق يعمل حزب الله على انتاج الطريقة التي تكفل استخراج الترياق المناسب لتوفير العلاج، لكنه يحيط هذا الاختبار بعناية شديدة تندرج ايضاً تحت خانة “وحدة الصف الشيعي”، ما ذهب بالبعض لحد الاعتقاد ان ترابط مسألة الوحدة مع مكافحة الفساد لا يصحّان وسيجد الحزب نفسه منزوع القدرات على احداث التغيير المنشود.
ارخى هذا الجدل عن تغيير بنيوي داخل الثقافة الشيعية، قاد اليه عامل الانتخابات النيابية التي كان لها ان تفرض شخصيات شيعية “متحررة” من الالتزامات الحزبية، وثانياً الضغط الذي تعاني منه هذه البيئة اقتصادياً، مثلها مثل كل البيئات اللبنانية الاخرى، ما اوجب على بعض النخب المثقفة الشيعية ان تشهر سيف الاعتراض، الذي اتخذ شكل الحملات على مواقع التواصل الاجتماعي خيضت من قبل شخصيات معروفة التوجهات ولا تتخفى خلف مطالب سياسية، وقد نالت دعماً عبر قواعد شعبية.
ثمة نموذج فاقع أكثر أثر بالرأي العام لحدود التلازم مع طروحاته، عبر عنه النائب جميل السيد، الذي يسجل له ان اول من أشهر سيف المبارزة داخل البيئة الشيعية في العهد الجديد.
وبخلاف العودة الى الاسباب الموضوعية التي انطلق منها النائب السيد وما يصبو اليه من وراء طرحه الافكار على نحوٍ فاقع وخلافي، كان خطابه كفيل بفتح الندوب على المسرح الشيعي، وخلق حالة صراع مستجدة تحمل اطاراً شعبوياً تغييرياً جرّ وراءه خُطب على نفس وزن ما صرح به.
حزب الله أخذ حالة النائب السيّد على محمل الجد وفسرها من ضمن الحراك الشيعي العام الذي يسجل عبر مواقع التواصل. وقد لاحظ ان نهج السيد قد لا يتلازم والقاعدة المعمول بها عند الضاحية، اي “الوحدة الشيعية”، بعدما عاين ان مواقفه سيقت أو خرجت عن هدفها الحقيقي، اي الاشارة الى موضع الفساد او معالجته، نسبة لأنها لفت بنكهة توجهت الى حزب بعينه.
انطلاقاً من هنا عمل حزب الله محاولة احاطة مواقف السيد بشيء من الاهتمام والدرس والنصح كي لا تذهب في السياق الخطأ او تندرج في خانة الحملات الهادفة الى خرق البيئة الشيعية، كما يصلح للبعض ان يسمي الاشياء.
وعليه، كان من الضروري ان يحصل لقاء بين السيد حسن نصرالله والنائب جميل السيد لوضع الامور في نصابها ونقل المعالجة من المنابر الى المجالس. وعلم “ليبانون ديبايت” ان الجانبان التقيا قبل مدة وجيزة اتت بعيد الخطاب الناري الذي توجه فيه النائب السيد باتهامات محددة صورت على انها تستهدف حركة أمل.
ووفق المعلومات المتوفرة، قال نصرالله للنائب السيد انه يتفهم مواقفه، لافتاً عنايته الى الوضع الشيعي الداخلي الدقيق. وقد جرى التفاهم على مراعاة حاضنة الوضع الشيعي واعطاء الاولوية لوحدة البيت الشيعي والحفاظ على هذه الوحدة، ثم مناقشة الاشياء في مجالسها وضمن الاطر المعنية لا اعتلاء المنابر وشن الحملات.
وقد بدا النائب السيد متفهماً لطلبات نصرالله، واعداً بعدم الغوص في جدال مشابه، عارضاً امامه حاجات المنطقة التي انتجب عنها وضرورة تحقيق مطالبها، شارحاً لنصرالله افكاره. وعلم انه النائب السيد نالاً وعداً بمتابعة هذه الملفات ووضعتها على خانة الاولويات.
وفي السياق، علم ان حزب الله سيتولى “ضبط الخلاف” بين النائب السيّد وحركة أمل ومعالجته بعيداً عن الاعلام، وقد جرى تخصيص قناة أو آلية لهذا الشأن.
عبدالله قمح