ما هي قصة المشاورات الممهدة لتذليل العقبات أمام مهمة الرئيس سعد الحريري المكلف تشكيل الحكومة؟ ليست المرة الأولى التي يتوجه فيها الى قصر بعبدا ليودع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مسودة أفكار من أجل المضي قدمًا في عملية التأليف.
فقد سبق وزاره ليقف على رأيه في ما قدمه إليه عندما كان الوضع لا يزال يدور في حلقة حصة “القوات اللبنانية” ومطالبتها بخمس حقائب من ضمنها حقيبة سيادية أو نيابة رئاسة الحكومة، والحزب التقدمي الاشتراكي الذي يبقى مصرًا على أن يتمثل بالحقائب الدرزية الثلاث.
وعندما كان الرئيس يبدي ملاحظاته ويحيل الرئيس المكلف الى البحث في العقد والحلول مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، كان الحريري يذهب الى زيارة خارجية رسمية أو عائلية والى استئناف المشاورات مع “القوات” و”التقدمي”.
في المحاولة الأولى الجدية، زار رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الرئيس الحريري في بيت الوسط، وبناء على تمنيه تسهيل مهمة التأليف، تنازل حزب القوات عن نيابة رئاسة الحكومة. نقل وزير الإعلام ملحم الرياشي هذا الأمر الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ولكن قبل لقائه به كان باسيل قد سبقه الى لقائه وسقطت المحاولة مع تسريب الاعتراض على حصة “القوات” وحصة “التقدمي”، ووضع شروط على الحقائب المخصصة لهما وعلى عددها، مع التمسك بتوزير النائب طلال إرسلان.
لم تقف الأمور عند هذا الحد. زار الرئيس سعد الحريري الرئيس نبيه بري وطلب مساعدته في تذليل العقبات إذا كان بإمكانه أن يلعب هذا الدور، خصوصًا مع ابتعاد الثنائي الشيعي عن الدخول في الشروط والشروط المضادة علنا، واكتفائه في المرحلة الأولى بأن تكون حصته في الحكومة ثلاثة وزراء لحركة أمل وثلاثة لحزب الله.
وافق الرئيس بري على أن يحاول أن يحدث فجوة في جدار التأليف، وعلى هذا الأساس دارت المشاورات بين بيت الوسط وعين التينة وقصر بعبدا مرورًا بمعراب وكليمنصو ومقر التيار الوطني الحر من خلال الدكتور سمير جعجع والوزير ملحم الرياشي والوزير السابق وليد جنبلاط والنائب تيمور جنبلاط والوزير والنائب جبران باسيل الذي يتولى منفردًا الحديث باسم “التيار” في هذه المسألة.
محور الجولة الثانية في هذه المفاوضات التمهيدية للتوصل الى تقديم تصوّر جديد للحكومة، كان يدور حول تسهيل جديد لهذه المهمة تقبل به “القوات” مع حل وسط بالنسبة الى المقعد الدرزي الثالث، وعلى هذا الأساس كان الدور الذي لعبه الرئيس نبيه بري من خلال لقائين عقدهما في عين التينة مع الوزير الرياشي ومع الوزير السابق وليد جنبلاط الذي خرج بعد هذا اللقاء ليعلن أن الشروط الموضوعة من قبل الوزير باسيل حول حصة “القوات” غير منطقية، ذلك أن “القوات” كان لديها 8 نواب و4 وزراء، واليوم صار عندها عدد مضاعف من النواب ولا يريدون إعطاءها حتى 4 وزراء.
عندما طلب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من الدكتور سمير جعجع أن يكون نائب رئيس مجلس الوزراء من حصته لم يعترض جعجع، ونزل عند رغبته وقال له: ما عنا مشكلة ولكن نريد حقيبة سيادية لـ”القوات” كما “التيار”. رد عون: أنا ما بوهب ولا بحجب. وهذا الموضوع عند الرئيس المكلف.
في إحدى جلسات التشاور التي عقدها الرئيس سعد الحريري مع الوزير الرياشي والدكتور سمير جعجع أبلغ إليهما أنه مستعد مقابل عدم إعطاء “القوات” حقيبة سيادية” يمكن إعطاءها أربع حقائب وزارية من دون وزير دولة. هذا الطرح لم يأتِ مباشرة من الرئيس سعد الحريري. ثمة معلومات تقول إنه انطلق من عند الرئيس بري من عين التينة. طلب بري لقاء الوزير الرياشي، فزاره في عين التينة وطرح عليه هذا الأمر. نقل الرياشي هذا الطرح الى رئيس الحزب الدكتور سمير جعجع فوافق عليه على أساس أن تكون الحقائب وازنة تعادل الاستغناء عن حقيبة سيادية. وعلى هذا الأساس، فإن “القوات” مستعدة لتسهيل مهمة الرئيس المكلف. ولذلك عندما تم طرح هذا الموضوع في اللقاء معه لم يكن هناك اعتراض.
كان هناك تصوّر لدى الوزير جبران باسيل أن “القوات” لن تتساهل في تشكيل الحكومة، وربما لا تريد أن تشارك، وأنها لهذا السبب تضع شروطها وترفع مطالبها، بينما في المقابل كانت تتصرف عكس هذا التصوّر ذلك أنها قدمت التسهيلات التي وصلت الى حدود التضحيات، ولكنها من المؤكد لا تقبل أن تصل الى حدود إلغاء “القوات”. هذا الموقف المبدئي والنهائي لـ”القوات” تم إبلاغه الى الرئيسين بري والحريري على قاعدة أن التسهيلات لها حدود معينة ولا يمكن تخطيها، ولم يكن حزب الله بعيدًا عن هذه الأجواء، بالإضافة الى أن “القوات” لم تكن تحتاج الى إقناع جنبلاط بذلك لأنه كان مقتنعًا سلفاً بما تطالب به.
دخول الرئيس بري على خط التأليف كان بناء على تمنٍّ من الرئيس سعد الحريري. بعدما بدأ النائب زياد الحواط يحضر لقاءات الأربعاء في عين التينة، فتحت بوابة للتواصل بين “القوات” والرئيس بري، واعتقد الرئيس الحريري أن الرئيس بري يمكن أن يساعده في “المونة” على “القوات” لتسهيل عملية التأليف. وعلى هذا الأساس جرت المحاولة. كان الدكتور جعجع خارج لبنان. طلب بري الاجتماع مع الرياشي. حصل اللقاء ونقل الرياشي ما طلبه بري الى الدكتور جعجع. جعجع لم يمانع معتبرًا أن أربع حقائب وازنة تمثل حجم “القوات” بالحد الأدنى يمكن أن نقبل به. وفي المقابل زار الوزير علي حسن خليل بيت الوسط والتقى الرئيس سعد الحريري ليضعه أيضًا في جو ما يحصل مع “القوات” من جهة، ومع الحزب التقدمي الاشتراكي من جهة ثانية.
في اللقاءات القواتية مع الحريري تم وضعه في جو المفاوضات، وقيل له إن القبول بهذا المطلب ليس تخليًا عن الحقيبة السيادية بل ربطا بنتائج المفاوضات. إذا نجح الرئيس الحريري في تخصيص أربع حقائب لـ”القوات” كاملة ووازنة من دون وزير دولة، لا تكون لديها مشكلة في التخلي عن الحقيبة السيادية، وإذا لم ينجح تتم العودة الى المربع الأول على قاعدة إذا عدتم عدنا.
أخذ الرئيس الحريري بهذا الطرح وأبدى ارتياحه لخيارات “القوات” التسهيلية، وقدم تشكيلته الى الرئيس ميشال عون، ولكن المحاولة تعطلت في قصر بعبدا، ومن خلال رفض الوزير جبران باسيل الذي كان زار الرئيس سعد الحريري في بيت الوسط وبحث معه في آخر ما توصل إليه في موضوع التشكيلة.
بحسب بعض الأجواء المنقولة عن باسيل، يبدو أنه نادم على المصالحة مع “القوات”، وأنه كان يفضل أن يقتصر الأمر على اتفاق سياسي فقط حول موضوع الرئاسة، لأنه يعتبر أن المصالحة أثّرت سلبًا داخل التيار الذي كان يشد عصبه ضد “القوات”. بينما في المقابل فتحت المصالحة الطريق أمام “القوات” في البيئة المسيحية خصوصًا واللبنانية عمومًا. ونتيجة ذلك يرفض باسيل إعطاء “القوات” أربع حقائب وزارية، حتى ولو كانت وزارات دولة، وهو ربما يفضل ألا تكون “القوات” أصلاً في الحكومة حتى لا تؤثر من خلال حضورها سلبًا على أدائه.
في لقائه مع باسيل يُقال إن الرئيس الحريري لم يطلعه على التشكيلة التي أنجزها. حصل جدال بينهما حول موضوع “القوات”. قال له الحريري إنه يُعدّ التشكيلة. طلب باسيل الاطلاع عليها، رفض الحريري على أساس أن المرجع المخوّل الاطلاع عليها دستوريًا هو رئيس الجمهورية، وهذا ما حصل، وأن ما يمكن أن يبحثه مع باسيل ينحصر في الحصة الخاصة به.
بعدما سلّم الحريري التشكيلة الى الرئيس عون قد يكون باسيل علم بها من خلال دوائر القصر الجمهوري، وعلى هذا الأساس كان الموقف الذي أعلنه بعد اجتماع تكتل “لبنان القوي”، معتبرًا أنها تشكيلة رفع عتب. ومع تسريب الملاحظات التي قيل إن رئيس الجمهورية أبداها حول تفاصيل هذه التشكيلة، كان لقاء المجلس المركزي لتيار المستقبل في بيت الوسط وبيان رؤساء الحكومة السابقين فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام حول صلاحيات الرئيس المكلف، وقد وصل الأمر الى حد اعتبار أن اتصال الرئيس الحريري بالوزير السابق أشرف ريفي مطمئناً الى صحة إبنتيه بعد حادث السيارة الذي تعرضتا له يدخل ضمن إطار الالتفاف السنّي حول الرئيس المكلف، خصوصًا أن ريفي استتبع هذا الاتصال بإعلان وقوفه الى جانب الرئيس الحريري.
موقف باسيل الرافض رفضه الحريري على أساس أنه أبلغ التشكيلة الى الرئيس عون، فلماذا يتدخل باسيل؟ بعض المعلومات تقول إن باسيل منزعج من الوضع الذي وصلت إليه آلية التشكيل، وهو لا يستطيع استثمار موقفه بشكل إيجابي، ولا يستطيع أن يوقف تردداته السلبية عليه، ولديه تخوّف كبير من انعكاس هذا الوضع حتى على مونته على التكتل النيابي الذي تجمّع حوله في الانتخابات على قاعدة دعم العهد القوي.
بعد عودة الرئيس الحريري من قصر بعبدا وبعد صدور ردود الفعل الأولية والنهائية على تشكيلته، زاره الوزير الرياشي في بيت الوسط ليطلع منه على حقيقة التطورات. أكد الحريري إلتزامه وتمسكه بتمثيل “القوات”، وأنه لن يشكل حكومة من دون “القوات”، وأنه سيبقى متحالفاً معها مهما قيل ومهما كانت الضغوط. وهو سيكمل في المسار نفسه وينتظر إجابات. لم يفصح للوزير الرياشي حتى عن الحقائب التي خصّ “القوات” بها، متمسكاً بأنها ملكه ورئيس الجمهورية كما ينص الدستور. الوزن السياسي لهذه الحقائب بات أهم من الوزن الخدماتي.
الرئيس بري مكمل في لعب دوره، وهو ملمّ ومقتنع بالجهة التي تعرقل التشكيل. كل ما يُشاع عن أن العرقلة خارجية لا أساس له من الصحة. المسألة داخلية بحتة والأوراق كلها مكشوفة، والأنظار كلها تتجه تقريبًا الى الوزير باسيل. ولذلك ثمة معطيات تقول إن التركيز على صلاحيات رئيس الجمهورية لا قاعدة دستورية له لأن كلاً من الرئيسين الحريري وعون يقومان بدورهما، ولذلك إن الحديث عن الصلاحيات يهدف الى إبعاد الأنظار عن المأزق السياسي وأسباب الأزمة الحقيقية.
هناك صراع سلطة في غير محله ومحاولة لزج عملية تشكيل الحكومة في استحقاق رئاسة الجمهورية بعد أربعة أعوام. لم يأتِ الجواب على هذه المحاولة من “القوات” بل من نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم الذي طلب الفصل بين الموضوعين. المعلومات تقول إن قاسم كان يقصد باسيل تحديدًا مئة في المئة، وإن الحزب حاول بعد ذلك سحب هذا الكلام من التداول مع نفيه أن يكون باسيل هو المقصود. ولكن الكلام كان قد قيل والرسالة كانت قد وصلت.
كل ما يحصل في موضوع تشكيل الحكومة لا يخرج عن دستور الطائف. و”القوات” متمسكة بهذه المسألة الى النهاية، خصوصًا ما يتعلق منها بصلاحيات رئيس الجمهورية وصلاحيات رئيس الحكومة. هذه قاعدة عمل “القوات” منذ أيام الرئيس بشير الجميل، وهي تقوم على حق احترام الآخر وخصوصياته، وهذا ما يتحقق من خلال الطائف والتوازن في الصلاحيات. لم يكن الطائف الصيغة الشرعية الوحيدة التي تحكم البلد كنص دستوري، بل كان نتيجة توافق على المشاركة في السلطة، وقد ارتضاه كل اللبنانيين وصولاً الى العماد عون الذي وافق عليه خطيًا في وثيقة إعلان النوايا واتفاق معراب، الأمر الذي يعود الفضل فيه الى “القوات اللبنانية” والدكتور سمير جعجع.
ماذا بعد؟
قد يوجه الرئيس عون رسالة الى رئيس مجلس النواب على رغم نصائح كثيرين له بعدم الإقدام على هذه الخطوة التي لن ينتج عنها أي تطور إيجابي، والبعض يذكّر بما أقدم عليه عون في العام 1989 عندما قرّر حل مجلس النواب قبل جلسة انتخاب الرئيس رينيه معوض في 5 تشرين الثاني. ذلك أن الرئيس الحريري ثابت حتى إشعار آخر على هذه التشكيلة ضمن المعايير التي وضعها، إلا في حال تبدلت هذه المعايير بإعطاء حقيبة الطاقة مثلاً الى “القوات اللبنانية”. إذا حصل ذلك هل تقبل “القوات” بوزارة دولة؟
مصادر “القوات” تقول: إذا أخذنا الطاقة يُصبح هذا الأمر ممكناً. هذا الموضوع بحثه الرئيس الحريري مع الدكتور جعجع. سأله الحريري: فيك تقطّعلي ياها من دون حقيبة سيادية؟ قال له جعجع: أعطيني وزارة الطاقة وما بدّي سيادية. بس بأكدلك إنو بتجي الكهرباء خلال 6 أشهر لكل لبنان. وخلال سنة ونصف بيكون عندنا معامل إنتاج. نحنا مش راكضين وراء سلطة وحقائب وزارية. راكضين وراء تقديم الأفضل للبنان”.
هل يمكن أن يعود هذا الطرح مجددًا الى الرئيس عون؟ من غير الوارد بتاتاً عند الوزير باسيل التنازل عن الطاقة. الأجواء تقول: يمكن أن تأخذ من باسيل الخارجية والدفاع ولا يمكن أن تأخذ منه الطاقة
السؤال : لماذا ؟