يكاد كل شيء خاضع في لبنان لمبدأ التحريف. السياسة تحرّف من أجل الزعامات. المجتمع يحرّف من أجل السياسة. السياسة تدخل مواقع التواصل، وهذه المواقع تجيّر في خدمة السياسة.. يا للهول!
مجتمع بأمه وأبيه خاضع للتبدلات المصلحية الخاضعة بدورها للأهواء السياسية. يكاد لا يمر شيء في سماء لبنان دون ان يصاب بوباء “سياسة” او يخضع لها او للأحزاب او المذاهب.. هذه الاخيرة دجّنت حتى خضعت للسياسة وللأحزاب، والاحزاب خاضعة لها ايضاً وايضاً، يعني انه تعاون بالتكافل والتضامن وتقاطع المصالح !
عامل جديد دخل على ادبيات الخضوع. وسائل التواصل الاجتماعي التي اضحت لغة التخاطب الرئيسة ليس فقط في القرن الحادي والعشرين، بل لعموم السياسيين والاحزاب وسائر الطبقة الحاكمة، ثم بينهم وبينها وبين بعضهم بعضاً، التي وبعد ان تخلت عن الرصاصة والمدفع، وجدت لها مدفعاً بعيار آخر ينفع لخوض المعارك وشن الهجمات، لا يقل تأثيراً او ايذاءً عن العسكر الذي ترك جانباً ونزع أعضاؤه البزاة ودخلوا السياسة.
موقع “تويتر” بات عامل جذب “المعارك الجديدة” ومقصداً لها بحيث انه بات “رقم واحد” في الزود عن السياسيين في معاركهم الافتراضية وتغذية رغباتهم الجامحة نحو المشاكل واثارة النعرات وابتداع الاشتباكات وخلق الازمات وتعويم ثقافة الحقد والكره والانقسام.
انتقلت مشاكل السياسيين الى “توتير” الذي اضحى مسرح سجال متنقل ومنطقة عمليات تسوق الجيوش الافتراضية المحزَّبة الى ميادين قتالية تخاض عليها معارك ضارية، الى حد رقّاها من مستوى مواقع للتواصل والتعارف بين الناس، الى مواقع مهمتها الرئيسة تبادل رسائل مباشرة او غير مباشرة بين سياسيين، و “التزريك” لسياسيين آخرين، او حتى شن معارك “ثقيلة” على سياسيين من خلال جيوش مغرّدين مهمتها تشويه الصورة او استخدام مادة ما من اجل إما تصفية حسابات او رد شخص ما، مسؤولاً كان ام غير مسؤول، الى بيت الطاعة!
قال مرّة أحد المراجع: “الحمد لله أن وسائل التواصل لم تكن انتشرت بعد خلال أزمات السياسية في 2007 وما تلاها في 2008، ولو كانت كذلك لربما كنّا الآن في طائف ثانٍ نسعى لوأد الحرب!”، كلام يدل على حجم الخطر الناتج عن الاستخدام السياسي الغير مسؤول لهذه الأدوات التي يصفها بـ”أسلحة الدمار الشامل”.
ثمة امثلة شاخصة متعددة استخدمت من قبل سياسيين ارخت عن ثقل لا تزال مفاعيله مستمرة إلى الآن، ليس آخرها تغريده رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل معزياً برئيس تيار المردة السابق روبير فرنجية، التي وضعتها “قيادة المردة الحالية” في إطار استفزازها من قبل باسيل، فقامت تغريده على زيادة منسوب التشنج بين الجانبين ما لبث ان انسحب على عموم نشطائهما.
مثال آخر حول العلاقة المتدحرجة نزولاً بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، والتي لا ضير في استخدام مواقع التواصل والجيوش الالكترونية من اجل رفع منسوبها او ارسال رسائل او تلويح بتهديدات ذات طابع سياسي ما، او تسويق وترويج امور تضر بجهة، وصولاً لحد بلوغ “حروب الالغاء” على الصفحات، وهو ذات الامر الذي يخاض من بين نشطاء اشتراكيين وعونيين والذي يأخذ في أكثر من شكل، منحى طائفي مقيت!
الداء ينسحب ايضاً على بعض الناشطين المحسوبين على حزب الله وحركة أمل، والذين وبدفع من اشخاص معروفين، يخوضون معارك دورية تصل الى مستوى الدق على المسامير ونكئ الجراح، ما يدفع بقيادة الحزبين الى الدعوة لاجتماعات استثنائية من اجل ضبط الامور، وتحميل “اشخاص” مسؤولية ما يجري.
يقول عارفون، ان بعض السياسيين يتقصدون استخدام مواقع التواصل من اجل نبش قبور او ارسال رسائل، ودائماً ما يخرجون بمظهر النافي او المدين لمثل هذه الاحداث، لكن عدة عوامل ثبتت انه يتقصدون استخدام هذه المنصات ويقفون خلف تحريكها، والعودة الدائمة في مقام التأكيد، على “فيديو بحرمش” الذي اورد فيه الوزير باسيل انتقادات لاذعة للرئيس نبيه بري اتت في سياق سياسي “تنافسي” بين الجانبين، ادت الى ما ادى اليه لاحقاً.
في الخلاصة، يؤدي هذا الاستخدام دوماً الى خلق خلافات تأخذ ابعاداً تتجاوز السياسية وتصل في كثير من الاماكن الى خلق موجات احتقان داخلي ينتج عنها نزولاً الى الشارع، او استفادة سفارات او جهات خارجية منها، على سبيل المثال ما سرب مؤخراً عن حبكة سعودية تعمل على تشكيل “جيش الكترونية” تستفيد منه في مواضيع لها علاقة بدورها السياسي الداخلي الجديد.
كثير ما بتنا نجد “هاشتاغات” تخاض اسفلها الحروب بحيث باتت “جيوش الهاشتاغ” في لبنان ذات أهمية كبرى تصلح للاعتماد لإطلاق الحروب السياسية، ولا تقل خطراً عن الجيوش المسلحة، كذلك باتوا على قدر من الاهتمام من قبل سفارات، ما يدفع لدعوة اجهزة وجهات، الى الالتزام باتخاذ خطوات شديدة ازاء هذه المواقع وما يثار او يرمى عليها، ليس من باب “قمع الحريات” كم يسهل للبعض ان يتهم، بل من اجل تدارك النتائج المردودة عن هذه المعارك، والتي لا تقل أهمية عن مخاطر اللعب بالسلم الاهلي وتأليب الرأي العام.
عبدالله قمح