قال الممثل الإيطالي البارع مارتشيللو فونتي لزميلنا هوفيك حبشيان : “كلّ يوم أجد سبباً لأكون سعيداً”. استوقفتْني هذه الجملة. بل هزّت أعماقي. بل كربجتْني. بل جمّدتْني في أرضي. ووبّختني توبيخاً عظيماً. إذ طلبتْ مني شخصياً، أن أجد كلّ يوم سبباً في حياتي لأكون سعيداً.
لكن كيف، يا مارتشيللو؟ كيف يمكن المرء أن يجد سبباً للسعادة وهو يعيش في لبنان؟ ألا تعلم أن لا أحد عاد في مقدوره أن يعيش في صالة سينما (رمزياً، وأكاد أزعم واقعياً) في لبنان، كما تقول “بترف” في المقابلة نفسها؟
ألا تعرف أننا نعيش في الدرجة صفر من الكرامة، من الشرف، من الأخلاقيات، من العقل، من الثقافة، في الحياة الوطنية والسياسية والإدارية والاقتصادية والمالية والمجتمعية والدينية والطائفية والمذهبية والأمنية؟ ألا تعلم أن هؤلاء الذي يديرون الحكم في لبنان، ويتولّون السلطة، ويعيدون إنتاج النظام اللاأخلاقي الرهيب نفسه، يسرقون السعادة؟
ألا تعلم أني أستخدم فعل “يسرقون”، ليس بالمعنى الرمزي فحسب، بل بالمعنى الفعلي، المادي والواقعي، وأنه ليس عليك على سبيل المثل، سوى أن تعاين حجم التلوّث – لا شيء سوى التلوّث – وما يترتّب عليه من أمراض رهيبة مستعصية ومن وفيات؟ ألا تعلم أن الذين يسرقون السلطة والمال، هم أنفسهم الذين يسرقون في طريقهم العزم والأمل والفرح والسعادة والرغبة والبحبوحة والضحكة، من حياة اللبنانيين؟
أتريد أن تتعرّف إلى دستورنا، وميثاقنا، ونظامنا، وقانوننا، يا مارتشيللو؟ أتريد أن تعرف لماذا لا تتألف الحكومة عندنا؟ أتريد أن تعرف ماذا تفعل ميليشيات الطوائف والمذاهب وحيتان السياسة والمال وسماسرة الجمهورية، بهذا البلد الذي كان فردوساً أرضياً؟
أتريد أن تعرف مَن هو رئيس جمهوريتنا؟ ومَن هو رئيس مجلس وزرائنا؟ ومَن هو رئيس مجلس نوابنا؟ ومَن هم وزراؤنا ونوابنا؟ ومَن هم قادة أحزابنا؟ ومَن هم زعماء الدين والطائفة والمذهب عندنا؟
تعال إلى لبنان، يا مارتشيللو، لا بصفتكَ زائراً، أو سائحاً، أو ممثلاً مشاركاً في في فيلم ومهرجان، أو متلقياً جائزة. بل بصفتكَ مرتدياً “قبع الإخفاء”، لترى كيف يتلقى المواطن الإهانات والإذلالات اليومية في بحثه عن سقف، في صحّته، في رغيفه، في دوائه، في مستشفاه، في مدرسته، في جامعته، في دوائره الرسمية، في عيشه، في عمله، وفي ضمان مستقبله ومستقبل أولاده!
تعال إلى لبنان، ليوم أو يومين، أو سنة، يا مارتشيللو. من أجل أن تتفرّج كيف تُجرى انتخاباتنا الديموقراطية، وكيف تنشأ الأكثرية والأقلية الإيرانية والسعودية، ولِمَ لا تتفرّج على مطارنا الدولي، أو تقرأ بعض وسائل إعلامنا الصفراء، وما دون الصفراء، وتعاين الجيشين والدولتين والسيادتين، وأعلِمني في النهاية إذا كنتَ ستجد سبباً واحداً للسعادة في لبنان.
على الرغم من ذلك كلّه، سأظلّ أقنِع نفسي، يا مارتشيللو، بأن ثمة أسباباً جمّة للسعادة في لبنان. ويجب أن أظلّ أعثر عليها، أو على واحدٍ منها، على واحدٍ منها فقط في الأقلّ، يا مارتشيللو!
عقل العويط