أفترض افتراضاً أن الخيار وقع على شخصكَ الكريم، وعلى حزبكَ، في عملية التقاسم الحكومي، فإني أستبق الإعلان الرسمي، بالتوجه إليكَ بما يأتي: نهارك سعيد، يا معالي الوزير، ومبروك لكَ تولّي هذه المهمة الجليلة.
أما بعد، فيهمّني شخصياً، بصفتي مواطناً قبل كلّ شيء، وتحديداً بصفتي كاتباً وصحافياً، معنياً بالمسألة الثقافية، أن أضع معاليكَ في صورة ما يشغل بالي “ثقافياً”، وخصوصاً لأني أنطلق من اعتباراتٍ تحليلية ومنهجية، تجعلني شديد الاعتقاد بأن لبنان الثقافي هو الذي يخلّص لبنان من براثن الهمجية “الأخلاقية” التي تستولي عليه، وتجعله بلداً للتساقط المعياري والقيمي، ومساحةً موبوءةً للتخلف والجهل والفساد، ومعرضاً مستباحاً لأشكال الانحطاط واللاسيادة.
أراني، يا معالي الوزير، أسألكَ سؤالاً أساسياً هو الآتي: ما مشروعكَ لاستعادة “لبنان الثقافي” من خلال الوزارة التي وافقتَ على الاضطلاع بمسؤولياتها، والتي أعتبرها بكل تواضع، مهمةً كبرى تحتلّ الأولوية عندي، ولا تعدلها أيّ مسؤوليات ثانية، مهما علا شأنها، أكان ذلك في السياسة الوطنية المباشرة التي بلغت الحضيض، أم في الاقتصاد الذي أخذت غيوم الخطر الداهم تتلبّد بكثافة حول مصيره؟
فما هو مشروعكَ، وماذا تريد أن تفعل في هذا الشأن؟!
رجائي أولاً، أن لا تكون (وحزبكَ) وافقتَ على تولّي هذه “الحقيبة” لأن قرعة المحاصصة وقعتْ عليكَ وعلى حزبكَ، أياً يكن هذا الحزب وأياً يكن شخصكَ الكريم.
فإيّاكَ أن تقبل وأن يقبل حزبكَ بقرعةٍ كهذه، إذا لم يكن ثمة “إيمانٌ” مطلقٌ بأهمية هذه المسؤولية وبدورها الجوهري في إنقاذ لبنان مما آلت إليه أوضاعه كلّها.
اعتقادي أن أساس العلّة اللبنانية هو هنا، في انهيار “لبنان الثقافي”.
أنبّهكَ تنبيهاً عالياً: “لبنان الثقافي” ليس هو فقط لبنان الأدب والفنّ والموسيقى والمسرح. هذا الجانب هو جزءٌ “بسيط” من “لبنان الثقافي”.
لذا، ينبغي لكَ، ولحزبكَ، أن تعرفا أولاً ماذا يعني “لبنان الثقافي”.
يهمّني أن أقول لكَ الآتي: “إضحك بعبّكَ” و”اشكر ربّكَ” لأنكَ ستكون وزيراً للثقافة. فثمّة أمامكَ، وأمام حزبكَ، أياً تكونا، “فرصةً” تاريخيةً نادرة، لإحراز ما لم يُتَح لأحد حتى اللحظة أن يحرزه في سبيل استعادة “لبنان الثقافي”.
يهمّني أن أحيلكَ مباشرةً على العدد الخاص من “النهار”، الخميس، في 27 أيلول 2018، حاملاً عنوان “مانيفست لخلاص لبنان”.
يعاني لبنان، من حيث الوجود والمصير، وفي الجغرافيا السياسية، كما في ممارسة السلطة، مشكلات جمة، ويواجه تحديات وتعقيدات متشابكة ومتداخلة، ليس أقلّها أنه، أولاً، أسير الجغرافيا والتاريخ معاً، وأنه، ثانياً وفي الآن نفسه، أسير مكوّناته المجتمعية البالغة الدقة والتعقيد، وأنه، ثالثاً، وهنا بيت القصيد، لم يعد يعير أيّ اهتمامٍ لمعناه الثقافي، ولم يعد يشعر بأيّ تهيّب حيال دوره في مجال هذه المسؤولية الثقافية، تاركاً للارتزاق السياسي والمالي، ولأهل هذا الارتزاق الرخيص، الإمعان في تفريغ هذا الدور من معناه الجوهري والوجودي.
أقترح عليكَ منذ الآن، عشية ما يقال عن اقتراب تأليف الحكومة، أن تعكف على قراءة العدد الخاص من “النهار” هذا، لأنه يركّز على الخلفيات الثقافية والمعيارية و”الأخلاقية” لمعنى لبنان الدولة، ولبنان الجمهورية، ولبنان السيادة.
لكني لن ألزمكَ شيئاً. بل يمكنكَ أن تضرب صفحاً عن ضرورة قراءة العدد المذكور.
في المقابل – انتبهْ جيداً يا معالي الوزير – يمكنني على سبيل المثل، أن أبدأ بسؤالكَ عن الخطة التي تريد بها أن تبصر النورَ مكتبتُنا الوطنية.
فهل تعرف، معاليكَ، ما هي المكتبة الوطنية، وماذا يعني أن نضع “خطة متكاملة” لفتح مكتبةٍ وطنية الآن، في هذا الزمن المعرفي والتكنولوجي المتحول، على غرار ما هي عليه المكتبات الوطنية في “العالم”؟
إيّاكَ أن يوسوس لكَ أحدهم قائلاً إن تنظيف الكتب وترتيبها وفهرستها وعرضها في بناءٍ تاريخيّ مرمم، يمكن أن يشكل معياراً معقولاً وكافياً لقيام مكتبةٍ وطنية. انتبهْ جيداً إلى هذا الفخّ. إيّاكَ أن تقع فيه. هذه مراوغة “ثقافية” ساذجة، سخيفة، بل فارغة من المعنى.
المكتبة الوطنية تعني الكثير الكثير مما لا يعرفه بالتأكيد أهل الطبقة السياسية. وأكاد أجزم قائلاً: قلائل جداً من الموظفين الرسميين المعيّنين والمعنيين بشؤون المكتبة الوطنية، يفقهون معنى المكتبة ودورها ومسؤوليتها وتحدياتها في هذا الزمن.
مجدداً، أقول لك بقوّة: “إضحكْ بعبّكَ”، و”اشكرْ ربّكَ” لأنكَ ستكون وزيراً للثقافة. واعلمْ أن في هذه الوزارة ملفّاً عظيماً في انتظاركَ. فاجعل “عهدكَ” فرصةً تاريخيةً لخلق مؤسسة وطنية للذاكرة، من خلال المكتبة الوطنية، التي من مهامها الأساسية، المساهمة في صناعة “ثقافة المواطَنة، وفي صناعة المواطِن على السواء.
لذا، يجب أن تعدّا للعشرة، معاليكَ وحزبكَ، قبل الموافقة على تولّي هذه “الحقيبة”.
لا أخفيكَ، أني أنظر بمقتٍ شديد إلى كلمة “حقيبة”. وباحتقارٍ أيضاً.
الثقافة ليست حقيبة. إنها قضية وطنية، “أخلاقية”، قيمية، معيارية، وجودية، مصيرية، ومستقبلية بامتياز.
بل أكاد أقول: قضية سياسية، بالمعنى “الكريم” و”النبيل” للسياسة.
فإيّاكَ، وحزبكَ، أن “تستخفّا” بهذه “الحقيبة”.
لو عادت النصيحة إليَّ، لقلتُ لمعاليكَ وللحزب الذي تنتمي إليه، ما يأتي: وزارةٌ كهذه، بصلاحياتٍ ثقافية – وطنية (سياسية) كاملة غير منقوص منها أيّ حرف، تكفي للتضحية بكلّ الحصص الأخرى.
أعرف ماذا أقول. وأعرف خصوصاً أن قولي هذا ليس له أيّ قيمة مباشرة في المحاصصة السياسية والمالية.
القيمة العليا التي أقصدها، هي قيمة لبنان الثقافي، قيمة لبنان الشاعر، الذي هو وحده يخلّص لبنان.
فتِّش، وحزبكَ، يا معالي الوزير، عن معنى “لبنان الثقافي”، وتلقّفا هذا الدور… بشرط أن يكون دوراً كامل الصلاحية، وكامل المعنى. والسلام.
عقل العويط