ما جرى في مكتبِ منفذية الغرب في عاليه التّابعة للحزب السوري القومي الإجتماعي، أعادَ نبش حقبة سوداء مرّة عبرها القوميون بالدماء ولا يقبلون تخيل عودتها حتى بأي شكل من الأشكال. تلك مشهدية محل رفض من القوميين عامّة.
يستدركُ القوميون ما حصلَ في منفذيةِ الغرب من إطلاقِ نارٍ جرى بين قوميين ويردونه إلى تراكمات وشوائب تعودُ إلى زمنِ الإنتخابات النيابية، وما أسهم في انتقالِ المشكلة من النفوسِ إلى الزنود أنه لم يطرقُ باب حلها بجدّية من قبل القائمين على الحزب ومصلحته.
آخرون وإذ يقرون بوجود “خطأ حصلَ خلال مرحلة الإنتخابات”، لكنهم وفي اعتقادهم أن تشظي الخلاف ووصولهُ إلى هذا النحو، يتغذى على الصراعِ الحزبي الداخلي الناشب اليوم في صفِ القيادة، الذي لهُ أن ينتجُ تراكمات سلبية وحالات إحتقان وتباعد بين ابناء الخط الواحد.
يُعاني الحزب القومي من ترهل على مستوى القيادة الحزبية المنبثقة عن آخر مؤتمر عقده المجلس القومي عام ٢٠١٦ ونتجَ عنه إنتخاب المجلس الأعلى الذي هو السلطة التنفيذية في الحزب. منذُ ذلك التاريخ أدّت أسباب مُجتمعة إلى نشوبِ صراع بين القياديين أنفسهم الذين انقسموا إلى جماعتين، تُرجِمَ عبر تقديم إستقالات وَ رد إستقالات وتجميد أخرى، ما يجمعُ هو الإعتراض على تولّي رئيس الحزب حنّا الناشف مهامه، علماً أنّ القوميون إعتادوا على نموذج الإنقسام إلى فريقين، واحد موالٍ للنّائب أسعد حردان والثاني مُعارض له وللسياسات والعقلية التي يُدار بها الحزب نتيجة تسوية قديمة ما زالت مفاعيلها قائمة.
قبلَ أيامٍ قليلة، تقدَّم ٤ من أعضاءِ المجلس الأعلى بإستقالاتهم الى رئيسهِ أسعد حردان. الأخير آثر عدم النُّطق بالإستقالات خلال جلسة المجلس كي لا تُصبح نافذة وفقاً للدستور الحزبي. وقد تردد أن الإستقالات الجديدة تعودُ أسبابها إلى خلافٍ مع حردان نشأ بسبب دعمه إستمرار الناشف على رأس مسؤولياته ما جعلهُ بمواجهة الأعضاء المُستقيلون الذين يدفعون صوب إستقالته والإتيان بآخر (يعتقدُ أنه رئيس المكتب السياسي كمال النابلسي) بدلاً منه. الإتهامات للناشِف تتوزعُ بين الضعف وعدم القدرة على إدارةِ الحزب أو أحداث تغيير والتّعرض للضغوط.
ما يمكنُ الوقوف عنده في “أزمةِ عاليه “، أنّ أحد الأعضاء المُستقيلين من عضويةِ المجلس الأعلى، حسام العسراوي، هو أحدُ المعنيين بإشكال المنفذية، بسبب إعتراضه على تعيين النّاشف لمنفذ عام جديد بدلاً منه وهو أصلاً من الذين استقالوا طلباً لإستبداله، ما أعطى انطباعاً أنّ الصراع داخل المجلس الأعلى بدأ يتسللُ إلى الوحداتِ الحزبية و يلبسُ لبوس الإقتتال.
ثمّة إعتقاد راسخ يُجاهر به البعض، إن أزمة الحزب القومي الحالية، لا تتصل فقط بصراع حول سم الرئيس بل تمتدُ جذورها الى تراجعِ قدرة القبضة الحديدة التي يُمسك بها حردان، ما نتجَ عن ذلك تبدلاً في المعادلات أدت الى خروجِ بعض القياديين من “تحتِ إبط حردان” وتمردهم عليه، وهو ما نقلَ الأزمة إلى مكانٍ آخر ووضعها أمام خيارات جديدة.
أسباب أزمة القومي باتت معروفة، وهي سلسلة تراكمات ناتجة عن إخفاقات السلطة الحزبية اولاً، ثم التشظّي الواضح في سلمِ وهرمية القيادة ثانياً، ثم الإستحواذ على سلطةِ القرار وتجييرها الى شخصٍ أو اشخاص محددين ثالثاً، ثم غياب تداول السلطة المنصوص عنه في الدستورِ رابعاً، ثم سياسة الهيمنة على القرارِ الحزبي وشعور النخب المثقفة أن حزبهم باتَ يَتَّبع سياسياً لأحزاب أُخرى أو أشخاص وهو مقموعين خامساً، ثم الخلافات العميقة بين أفراد هيئة الحُكم سادساً… ثم وثم وهلم جرى من أسباب.
كلُّ ذلك غذّى الإحتقان الذي يَعيشه القوميون منذُ مدّة، الذين إنقسموا شيعاً وفِرق، بين موالٍ لهذا القيادي أو ذاك، وأضحت عقيدة الحزب صورية بدل أن تكون أساسية، ثم جرى وضع بنود الدّستور على الرّف، هذا بالإضافة الى التباعًُدِ العقائدي الذي يُجاهر بعض المسؤولين بغيابهِ عن المُنتسبين الجدد.
مصادر قريبة من قيادةِ الحزب القومي في الروشة، ترفضُ مطلقاً تصوير ما جرى في عاليه على أنّهُ ” إقتتال بين القوميين بسبب الخلافات في المجلسِ الأعلى”، معتبرةً أن ما جرى “لا يتعدى سقفه الخلاف الشخصي بين جانبين، وهو محصور في عاليه ولا يشملُ وحدات الحزب الأخرى، وقد عملَ على حلّهِ “، علماً إن المصادر وُضِعت جانباً من المسؤوليةِ على “القيادة التي لم تُعالج المشكلة عند نشأتها”.
“لا يجبُ أن يعتمد توصيف الاقتتال على ما يجري داخل قيادة القومي، بل هو صراع بين عدّة خطوات وافكار ولا ينسحبُ ذلك إلى أبعد من جدرانِ المركز. القوميون منذُ زمن قرروا دفن أحداث الثمانينات ووضع حجر على قبرها فالظُروف والوعي لا تحملُ أيَّ إشارات حول عودة تلك الحقبة”، هي خُلاصة قراءة مصادر القيادة.
مصادر مُعارضة للروشة، وإذ أكدت على أنّ الإقتتال بين القوميين أمرٌ “مرفوض ولا يمكنُ أن يعودُ وحتى إن الحديث به مُحرّم”، نصحت قيادة الحزب في طرحِ سؤال على نفسها: “ما الذي جلبَ هذا الويل؟” وهو نفس السؤال الذي طرحهُ أنطون سعادة مطلع الثلاثينات من القرنِ الماضي أثناء تأسيس حزبه.
وقالت: “نعضُّ على جراحنا اليوم وناطرين الفرج، والفرج لا يكونُ بالإقتتال بل بالنقاش والحوار حتى نجد الطّريق الآيل الى العلاج”.
وطرحت المصادر المُعارضة عبرَ “ليبانون ديبايت” حلاً للخروج من المأزقِ الذي نحن فيه، يقوم على “الدعوةِ الى مؤتمرٍ عام استثنائي شامل يُعيد وضع المؤسسة عند العقيدة لا العقيدة عند المؤسسة، وله أن يُعيد النّظر في مسألةِ انبثاق السّلطة داخل الحزب القومي، التي هي أساس المشاكل اليوم وتولّد الأزمات في كُلِّ يوم”.
عبدالله قمح