في هذه المنطقة العربية من العالم، وفي الشرق الأوسط هذا، يمكنكَ أن تصدّق كلّ شيء غير قابلٍ للتصديق، وأن تتوقّع كلّ شيء غير قابلٍ للتوقّع.
قد الجبال تظهر وتختفي. قد الأنهر. قد الأودية. وقد الأمبراطوريات والممالك والجمهوريات.
قد الشوارع والمدن والعمارات والأرصفة، وقد الناس يظهرون ويختفون هم أيضاً.
هذا كلّه عاديٌّ وطبيعيّ جداً وكثيراً، في هذه المنطقة العزيزة والفريدة من العالم.
كلّ شيء فيها يمكن أن يختفي، من دون أن يستدعي ذلك حصول أيّ ردّ فعلٍ جوهريّ.
فلن يُصدَم أحدٌ من جرّاء ذلك. ولن تقوم قيامةٌ بسببٍ من ذلك. ولن يسقط حكمٌ. ولن يحصل عصيانٌ مدنيّ. ولن تنهار بورصة. ولن يتزعزع اقتصاد. ولن يستقيل رئيسٌ أو ملكٌ أو أميرٌ، أو يُحاكَم، أو يدخل العصفورية. ولن ينتحر مسؤولٌ واحدٌ احتجاجاً أو تعبيراً عن غضبٍ أو استنكار.
الحياة في هذه المنطقة العربية والشرق أوسطية، ستظلّ عاديةً ومستمرة على رغم كلّ شيء. إذ لا شيء يستدعي حصول أيّ شيء.
منذ أن اختفى جمال خاشقجي، أو أُخفِيَ، بقتلٍ أو بغير قتل، وأنا أراقب ردود فعلي حيال هذه المسألة غير المسبوقة، قبل أن أراقب ردود أفعال الآخرين. وأيّ آخرين؟! فمَن أكون أنا مقارنةً بهؤلاء “الآخرين”. أنا لا أحد. لا شيء. صفرٌ على الشمال تقريباً. مثلي وأمثالي، كُثُرٌ للغاية، لكن لا شيء، في هذه المنطقة العزيزة من العالم.
أين هو جمال خاشقجي ؟ ربّما الكلّ يعرف أين هو، لكن لا أحد يعرف.
شخصياً، أستطيع أن أستنتج، وأن أخرج بخلاصةٍ منطقية، مفادُها أنه دخل إلى قنصلية بلاده، ولم يخرج. بل أتدارك قولي موضحاً أنه شوهد يدخل، لكن أحداً لم يشاهده خارجاً.
على الرغم من هذه الخلاصة الواضحة وضوح الشمس، ثمّة في العالم كلّه، في منطقتنا، في بلادنا، في الغرب وفي الشرق، مَن يريد أن يتستر على هذه الخلاصة. أو يريد بالأحرى، أن يجد لها إخراجاً مناسباً.
ترى، هل أنا أيضاً لا أعرف، ولا أريد أن أعرف؟!
أشعر بالعار من جرّاء ما أنا فيه. لأني لا أُشهِر ما أعنيه وما أقصده.
هل من عارٍ شخصيّ أسوأ من هذا العار؟!
هذا العار يُشعرني بأني حشرة. يُشعرني بأن الحياة حشرة. بأنها غبار. لا أكثر. ويُشعِرني بأن الكرامة الإنسانية في هذه المنطقة العزيزة من العالم، لا تساوي شيئاً. وبأن إنساناً يختفي علناً وفي الوضح، في حين أن لا دولة في العالم، ولا حتى الولايات المتحدة الأميركية، ولا حتى جمهورية أتاتورك، تملك شجاعة (كرامة!) أن تقول هذه الحقيقة البديهية، بما يترتب عليها من نتائج واحتمالات.
يا لجبروتكِ أيتها العلاقات الدولية، ويا أيتها المصالح!
ويا لقوتكَ أنتَ، أيها المال، أيها “الإله” العتيّ الجبّار، الذي من شأنه أن يجعل مصير شخصٍ يدخل علناً إلى قنصلية، ولا يخرج منها علناً، موضع شكّ أو تساؤل أو حيرة أو التباس!
الحياة لا شيء. الحرية لا شيء. كلّ شيءٍ هباء في العالم، وأيضاً في هذه المنطقة العربية والأوسطية من العالم!
ربما نستحقّ أكثر من ذلك. أما الآتي فلا بدّ أن يكون أعظم!
عقل العويط