جمال الجراح يتلقى ضربات من تحت الحزام

‫لم نعهد في السّياسةِ اللّبنانية أن جرى إدخال الأمور الشخصية في مسارٍ يطبعهُ الإنتقام السّياسي كما نشهدُ اليوم. وزير الإتصالات في حُكومةِ تصريف الأعمال جمال الجراح مثال يُحتذى عن الرّعونة التي يجري التعامل بها مع قيادات الصف الأول في تيار المستقبل، ونموذج دقيق عن سيناريو الإنتقام السّياسي النّاعم الذي يوليه أهميةً قصوى زعماء التيّار!‬

‫كان وزير “حقيبة النّفط الأسود” يمني النفس أن تثمرُ الخدمات التي قدّمها لصالح رئيس تياره سعد الحريري وتقرش لاحقاً، لكنه فوجئ أن الأسلوب الذي جرى التعامل به معه منذُ ما بعد مرحلة الإنتخابات النيابية، اختلفَ جذرياً عن ذلك ما سلف.‬

‫خلال تلك الفترة، فتحَ بيت الوسط التسهيلات أمام “الشيخ جمال” الذي مدّ بساطه وأخذ يتصرف كحاكم طي. توظيفات وتنفيعات في أوجيرو بالجملة، إختلاق مناصب و إفتتاح سنترالات وتقديمات وما شاكل، كلّه كان يجري تحت أعين الرّئيس الحريري الذي لم يكُن همّه في تلك اللحظة سوى حفظ الحد الأدنى من “الحصة السّنية” التي كانت مهدّدة بالتشريح على سرير القانون النسبي، ما أباح للجراح حريّة مطلقة بالتصرف، ضارباً عرض الحائط كل الكلام الذي قيلَ حول تجاوزات.‬

‫يومذاك، تخلّى الجراح عن مناه في المنصبِ النّيابي إفساحاً في المجالِ أمام ما هو أرفع من ذلك، منصب حكومي على وزنِ الدّاخلية، التي يمنحها المستقبل كميدالية ذهبية إلى وجه صحارة فريقه الوزاري، مقابل تجيير القدرات الإنتخابية للجراح لصالح مرشح تيار المستقبل أياً يكن هذا المرشح الذي يسميه الرّئيس الحريري، وطالما أنه يستطيعُ أن يبلغ مراده بالمقعد النيابي لاحقاً بعد أن يراكم ما لذّ وطاب من خدمات تتيحُ له العبور بفيزا دسمة.‬

‫نامَ الجراح على حلمِ وزارة الصنائع، وما عزّز مخيلته، أن نشبَ الخلاف بين الحريري ووزير الداخلية نهاد المشنوق، ووصل إلى حدّ ابتعاد المشنوق عن الكتلة الزرقاء، و إبتداع الحريري مبدأ الفصل بين النّيابة والوزارة كعامل متمم لمشروع الإطاحة بالمشنوق. على هذا الأساس اعتبرَ الجراح نفسه فائزاً. أخذ يحضّر أوراقه لخلافة المشنوق بعدما استطلع موقف بيت الوسط ووجد قابلية في ذلك. ‬

‫في هذه الفترة، أعلنَ الجراح التّخلي عن وزارة الإتصالات، علاوةً على ذلك، أخذَ “الزرق” يروّجون أنها ستكونُ من نصيب وزير بمنصب “حصان الحريري الرابح”، رئيس الهيئات الإقتصادية محمد شقير، وعليه، انتظر الجراح إشارة إيجابية من الحريري ليبدأ الإطلاع على ملفات الوزارة العتيدة، لكن أتت الإجابة وفق ما لا تشتهي سفن وزير البقاع، لتجمع كلها لإستبعاده من قائمة التّرشح لنيل الجائزة!‬

‫تارةً سرّب أن الداخلية ستؤول إلى ضابط رفيع تقاعد مؤخراً من قوى الأمن الداخلي، وتارةً أُخرى حديث عن تلزيمِ الحريري لنفسه على الوزارة، على أن يعين كمدبر لشؤونها وزير دولة! كل التسريبات لم تعط الداخلية للجراح.‬

‫يقالُ أن وزير الإتصالات إستطلعَ الموقف، ليجد أن بيت الوسط صرف نظره عن وعودِ ما قبل الإنتخابات، وأنه يفكّر بشخص آخر لتولي الدّاخلية. يندرج ذلك ضمن إطار خطة “تقزيم” يعمل عليها الحريري لتنفيس بعض القياديين الذين اتخموا خلال فترة وجوده خارج البلاد. ما دلَّ إلى ذلك وفي جزء منه هو نوعية المرشّحين الذين انتقاهم الحريري لخلافة “الصقور الزرق” في المجلس النيابي.‬

‫نامَ على حلم وزير الداخلية ثم استيقظ على حقيقة أنه منسق لا أكثر، يردّد مطلعون أن الأسلوب الذي مورس على جمال الجراح يشبه بنحوٍ مطابق ذلك الذي مورسَ على المنسقين بعد مرحلة الانتخابات!‬

‫بدايةً ، قرّر الجراح إعتماد أفضل وسيلة للدفاع، أي الهجوم. ومتسلحاً بتسجيل صوتي من العيار الثقيل، قصف بمدفعية الـ ١٥٥ بيت الوسط بتصريحات انتقى تسريبها عبر إحدى القنوات التلفزيونية المصنّفة في خانةِ العداء المزمن مع الحريري، تضمّنت عبارات من النّوعِ القاسي، كمثل لطشات بالإسم دون ذكر المقامات وقوله “ما بظن سعد بيلعب هاللعبة معنا مع أهل البقاع ومعي أنا بالذات، لأنه بده يكون ردي عنيف وقاسي”.‬

‫ثمّة من يظنُ أن الجراح، أم المقربين منه، تقصّدوا التّسريب لوضع الأمور عند نصابها وتوجيه رسالة إلى الحريري مفادها “لا تلعب معنا”، علماً أن الجراح حاولَ إستدراك الموقف بعد التّسريب عبر لقائه بالرئيس سعد الحريري. هناك من يقول ايضاً أن الجراح ربما يكون قد سجّل كلامه قبل فترة كنوع من أنواع “الفشخرة” التي لم يكن المقصود منها تحدّي الحريري.‬

‫بين وجهتي النّظر تكتملُ صورة التّعاطي السّلبي بين الجهتين، رُغم كل عمليات التجميل التي شاءَ البعض إدخالها عبر الإعلام للتخفيف من وقعِ ما يجري. عموماً، وإن مرّت القصة عند الحريري الذي بدا خلال لقائه بالجراح غير منزعج أبداً من التسريب، لكن الأكيد أنها وبالحدّ الأدنى لن تمر عند فريق الحريري أو المقربين منه.‬

‫ما يدفعُ لقول هذا الكلام هو تزامن مرحلة تسريب التسجيل الصوتي مع تسريبٍ آخر أشد وأكثر وطأة، عانى منه الجراح، كان عبارة عن تمريرِ صورة شخصية لوزير الإتصالات في وضعٍ خاص، ما حملَ أوجه متعددة اجمعت قراءتها حول اكتمال عناصر الرّد على التسريب الأول الذي طالَ الحريري، مع تبيان أن الرّد حمّال أوجه. سياسياً وظّف كسبيل لإخراج الجراح من معادلةِ التّوزير الجديدة، شعبياً كإسقاطٍ لماء الوجه.

عبدالله قمح

اخترنا لك