ثمانية تحالفات قدمت عروضها إلى مناقصة استقدام محطات استيراد الغاز الطبيعي (FSRU) الموزعة على البداوي وسلعاتا والزهراني، التي سبق أن أطلقت في 16 أيار 2018. لن يتأخر الاستشاري قبل البدء بدراسة الملفات التقنية ثم المالية، بعدما أنجزت منشآت النفط دراسة الملفات الإدارية.
لكن ذلك لا يلغي، بالنسبة لكثر، أن تلك المناقصة تشوبها شوائب كثيرة وستؤدي إلى دفع أموال طائلة يمكن توفيرها لو روعيت المصلحة الوطنية لا المصالح السياسية. حتى أكثر المؤيدين لمبدأ «الاستقلال الطاقوي» يتحفظون على وجود ثلاث محطات، معتبرين أن المبرر الوحيد لوجودها هو تثبيت الفيدرالية غير المعلنة، مالياً وطائفياً.
ثمة إجماع في لبنان على الحاجة الماسة للغاز الطبيعي لتشغيل معامل الكهرباء أولاً. وهو الإجماع نفسه الذي يربط بين التأخر في اللجوء إلى خيار الغاز وبين الخسائر الهائلة التي يتكبدها الاقتصاد اللبناني نتيجة الاستمرار في الاعتماد على الفيول لتشغيل هذه المعامل. وزير الطاقة يتحدث عن تكبّد الدولة اللبنانية لـ27 مليار دولار منذ التسعينيات نتيجة ذلك، وآخرون يصلون إلى حد التأكيد أن الخسارة لا تقدر بثمن، معتبرين أنه لو عمد لبنان إلى تشغيل المعامل على الغاز منذ سنوات لما كان اليوم في أزمة.
عام 2016، ألغيت مناقصة استقدام محطات استيراد الغاز الطبيعي. وكان دفتر الشروط ينص على إنشاء محطة «تغويز» واحدة ترك للشركات تحديد مكانها (محطة تحويل الغاز المسال المستورد بواسطة الناقلات البحرية إلى غاز يمكن استخدامه لتوليد الطاقة). أدى صراع المصالح السياسية الذي نشأ بعد إلغاء المناقصة (التي أطلقت في العام 2013) إلى تأخير إعادة إطلاق المناقصة حتى 20 تشرين الأول 2017.
حينها أنجزت التسوية، فوافق مجلس الوزراء على مشروع مسودة إعلان النوايا (شروط التأهيل) لإنشاء ثلاث محطات عائمة (بواخر) لا واحدة: البداوي والزهراني وسلعاتا. كذلك قضى القرار بإنشاء خطي أنابيب، الأول من صور إلى الجية مروراً بالزهراني، والثاني من البداوي إلى الزوق مروراً بسلعاتا، مع درس إمكانية ربط مدينة بيروت والمناطق الصناعية بخطوط الغاز المنشأة.
هكذا صارت المحطات الثلاث أمراً واقعاً سياسياً لا يكترث للمعايير العلمية والمالية. حتى إذا وُجد من يقتنع بأهمية إضافة محطة في الزهراني، فإن محطة سلعاتا بدت أسطورة للشركات المتقدمة. كل من يسأل منها عن جدوى تلك المحطة، يسمع كلاماً واضحاً: هذا قرار سياسي، ودفتر الشروط ينص على المحطات الثلاث والمناقصة لن تسير من دونها جميعها. ففي الواقع، لم يكن أحد يملك أي سبب تقني لإضافة هذه المحطة إلى المخطط.
لكن جميع العاملين على خط المشروع، أدركوا أنه لم يكن ليسير نحو التنفيذ لولاها ولولا محطة الزهراني. ببساطة، لأن الوزير جبران باسيل أصر على أن تكون هناك محطة في المناطق المسيحية، بعدما أصر وزراء حركة أمل على استقدام محطة إلى الزهراني أسوة بالبداوي، غير مكترثين إلى أن الأخيرة هي الخيار الأنسب والأرخص بحسب نتائج المناقصة التي ألغيت.
لماذا المحطات؟
حتى التسليم بأهمية وجود محطة واحدة، ثمة من ينقضه، ناسفاً مبدأ اللجوء إلى محطات التغويز في زمن صار فيه الغاز مادة متوافرة بكثرة وبخاصة في الدول العربية. يذهب البعض إلى التأكيد أن الخيار الأقل كلفة هو العودة إلى التفاوض مع مصر ومع سوريا للحصول منهما على الغاز، عبر الخط العربي، وبالتوازي البدء بمد أنبوب بحري أو برمائي من البداوي إلى الجنوب، يتصل بكل المعامل الساحلية، ويشكل خياراً استراتيجياً يُستعمل بداية للاستفادة من الخط العربي، ثم يُستعمل لاحقاً لاستجرار الغاز اللبناني ما إن يبدأ الإنتاج.
تبرر المصادر المؤيدة لهذا الخيار موقفها بالإشارة إلى أن مصر لن تتأخر قبل أن تبدأ الإنتاج من حقل زُهر، أكبر مكامن الغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، فيما سوريا وصلت حالياً إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي ولن تتأخر قبل أن تبدأ بالتصدير، بعدما شارفت على الانتهاء من ترميم حقول الغاز المتضررة في الحرب وبدأت بتطوير حقول أخرى، يتوقع أن تفوق حاجاتها المستقبلية.
أصحاب هذا الرأي يجدون في فارق التكلفة سبباً كافياً لغض الطرف عن المحطات العائمة، فلبنان سبق أن استورد الغاز من مصر بسعر 5٫6 دولار لكل مليون «بي تي يو» (وحدة قياس للغاز الطبيعي)، فيما يُتوقع أن يصل السعر عبر المحطات إلى 12 دولاراً (يُربط السعر بسعر طن الفيول)، ولمدة عشر سنوات. ويقول أصحاب هذا الرأي أن خيار «بواخر التغويز» له نتيجة إيجابية وحيدة، وهي خفض الانبعاثات الملوّثة للهواء، فيما سيتبخر وهم تخفيض السعر.
لا تدخل مصادر معنية بالمشروع في تفاصيل السعر، بانتظار فض العروض المالية، مكتفية بالإشارة إلى أن لبنان سيربح حكماً إنتاجاً أفضل وكفاءة أكبر لمعامل إنتاج الكهرباء، وهو ما سيؤدي إلى خفيض كلفة إنتاج الكيلواط.
أما في شأن مبدأ الاعتماد على الاستجرار، فتعتبره المصادر خياراً غير واقعي حالياً، «لأن مصر تحتاج إلى سنوات حتى يستقر الإنتاج لديها وتكون قادرة على الالتزام بعقود تصدير، أضف إلى أنها وقعت مؤخراً عقداً لاستجرار الطاقة من إسرائيل، أي أنها لا تزال غير قادرة على تأمين اكتفائها الذاتي.
أما الاستجرار من سوريا، فبدوره متعذر حالياً، نظراً للعلاقات السياسية غير المستقرة بين البلدين، وبالتالي عدم ضمان الحصول على الغاز منها، هذا في حال كانت قادرة على التصدير»، خصوصاً أن الطلب السوري على الغاز سيترفع كلما استقرت الأوضاع الأمنية وعادت البلاد إلى إنتاجها الاقتصادي السابق للحرب.
يُضاف إلى ما تقدّم أن مصر سبق أن وقّعت عقداً لإمداد لبنان بالغاز لمدة 15 عاماً، لكن العقد الموقع لم يُنفَّذ سوى لعام واحد، سواء بسبب تخلّف لبنان عن دفع ثمن الغاز، أو لأن الغاز المصري لم يعد كافياً لسد حاجات السوق المحلية، وبالتالي، غياب الفائض المعد للتصدير.
إن كان بسبب عدم وجود إمكانية للاستجرار أو تحت عنوان «الاستقلال الطاقوي»، قد يتفهم خبراء محليون لجوء الحكومة إلى تقنية التغويز، التي تحرر البلد من الارتهان لمصادر محدودة، فتتكفل الشركات بتأمين هذه المادة الحيوية من أي مصدر في العالم، لكنهم لا يتفهمون لماذا على لبنان أن يستقدم ثلاث محطات، فيما الأردن أو مصر، على سبيل المثال، يملك كل منهما محطة واحدة، وكذلك العدو الإسرائيلي، ولا يتخطى عدد المحطات في العالم ثلاثين محطة.
وعليه، يُؤكد معنيون بقطاع الكهرباء أن الخيار النموذجي، أو المنطقي، في حال الإصرار على خيار التغويز، هو إنشاء محطة واحدة في البداوي، ومنها تمديد الأنابيب إلى المعامل الأخرى على الساحل اللبناني أو في المياه اللبنانية. أما لماذا البداوي، فلأنها أكثر المناطق جاهزية لاستقبال بواخر التغويز، إن بسبب طبيعة المرسى أو لكون المنطقة هناك هي الأقل تعرضاً للأمواج، بالنظر إلى وجود حاجز طبيعي هو الجزر المواجهة للبحر في الشمال (تحتاج عملية ربط بواخر نقل الغاز السائل بباخرة التغويز إلى تقنيات عالية وتجهيزات دقيقة ليتم نقل المحتوى بسلاسة).
وهذا خيار يوفّر عملياً ما يقارب 800 مليون دولار، هو بدل إيجار المحطتين الأخريين، خصوصاً أنه في ظل وجود محطة أو ثلاث، فإن الأنابيب الساحلية سيتم تمديدها بحسب دفتر شروط المناقصة. وإن كان تمديدها عبر بيروت يحتاج إلى جهد وكلفة أكبر ومدة أطول بسبب تعذر مدها في البر، فذلك قد يكون مبرِّراً لوجود محطة ثانية في الزهراني، تستغني عن وصلة بيروت وتسمح بوصل معامل الزهراني والجية وصور بها.
تكتفي المصادر المعنية بالمشروع بالقول إن استقدام ثلاث محطات هو خيار سياسي بالدرجة الأولى، لكنه مبرَّر تقنياً أيضاً، فماذا لو لم يتمكن لبنان من مد الأنابيب لسبب أو لآخر، خصوصاً أن خيار مد الأنابيب سبق في العام 2010 لكنه لم ينفذ حتى اليوم لأسباب تقنية وسياسية)؟ هل تكون النتيجة تأمين الغاز لمعمل دير عمار فقط؟ ولهذا ترى المصادر أن وجود محطة ثانية في الزهراني يمكن أن يكون كفيلاً بتأمين الطاقة للمعامل الجنوبية، حتى لو تعثّرت الأنابيب.
أما في شأن محطة سلعاتا، فيكتفي المصدر بالإشارة إلى أنه على رغم قلة المسافة بين دير عمار وسلعاتا، إلا أن ذلك لا يعني أن مد الأنبوب سيكون سهلاً، فالأرض العائدة لسكة القطار (من المقرر استخدامها لمد أنابيب الغاز) في طرابلس مليئة بالتعديات، وبالتالي يجب التحسب لاحتمال عدم القدرة على مد الأنبوب، وهذا احتمال ينطبق على كل الخط الساحلي، المليء بالتضاريس الصعبة والذي تندر فيه الملكيات العامة غير المعتدى عليها، ما يزيد من صعوبة مد الأنابيب ويجعل اللجوء إلى بناء ثلاث محطات أمراً مبرراً تقنياً أيضاً، خصوصاً أنه بعد إنشاء معمل دير عمار 2 ومعمل سلعاتا، فإن ثقل إنتاج الكهرباء سيتركز في الشمال، ما يعني الحاجة إلى المزيد من كميات الغاز في تلك المنطقة.
محطة غاز لمعمل غير موجود
كل النقاش التقني لا يهم. السياسيون قرروا أن لبنان، بقدراته المحدودة مالياً وبمعامل الكهرباء لديه التي لا تنتج حالياً أكثر من ألفي ميغاواط، والذي لا يحتاج في المستقبل إلى أكثر من 5000 ميغاواط، بحاجة لثلاث محطات تغويز! وهنا، فإن الحديث بالأرقام يعني أن كل محطة تكلّف الدولة اللبنانية ما يقارب 400 مليون دولار، عدا عن سعر الغاز نفسه، فإيجار المحطة، الباخرة العائمة، يبلغ بحسب أرقام المناقصة الملغاة، ما بين 100 و120 ألف دولار في اليوم.
وهذا يعني ما بين 350 و400 مليون دولار على عشر سنوات، من دون احتساب تكلفة التجهيزات والإدارة والربط… (تكلفة الإيجار اليومي * 30 يوماً * 12 شهراً * 10 سنوات)، فهل يملك لبنان ترف صرف ما يقارب 800 مليون دولار ثمناً لمحطتين إضافيتين (في حال التسليم بأهمية خيار التغويز)، أو على الأقل 400 مليون دولار ثمناً لمحطة سلعاتا، حيث لا يوجد أي معمل لإنتاج الكهرباء، إنما هنالك مجرد خطط لبناء معمل؟
ليس هذا فحسب، فالمناقصة الحالية تنص على تمديد الأنابيب من دير عمار إلى الزوق مروراً بسلعاتا (نحو 70 كلم)، أي أن الغاز سيصل إلى معمل الكهرباء المزمع إنشاؤه بعد سنوات تلقائياً، فكيف تُنشأ محطة تغويز في مكان موصول بمحطة أخرى؟ أضف إلى أن المحطة تبعد عن محطة دير عمار 28 كلم فقط، أي أن المحطتين تعتبران متلاصقتين، بالمقارنة مع المسافات التي تقطعها أنابيب الغاز في العالم.
وأكثر من ذلك فإن محطة سلعاتا هي الأكثر تكلفة من بين المحطات الثلاث. يكفي أنها بحاجة إلى سنسول تصل تكلفة إنشائه إلى 80 مليون دولار (كان ذلك أبرز أسباب تقديم الشركات المشاركة في المناقصة الأولى العرض الأرخص لإنشاء محطة البداوي).
ما التبرير؟ هو المنطق الفيدرالي فقط الذي يتحكم بهذا القرار، فليس المهم أن يكون لبنان مستقلاً طاقوياً، إنما المطلوب الاستقلال الغازي لكل كانتون على حدة! هنا تسقط المعايير البيئية أيضاً. فالمنطق يقول، بحسب مصدر تقني مطلع، إن حصول أي منطقة أو معمل على الغاز أو الكهرباء من دون أن يكون لديها معمل أو محطة هو ميزة لأن هذه المنطقة ستكون في غنى عن التلوث الذي قد يلحقها. ليس لهذا المعيار مكان في هذه الحالة.
المحاصصة هي السمة الغالبة، والمعمل لا يضمن الفدرلة فقط، إنما يضمن المحاصصة المالية، فالعقود بمئات ملايين الدولارات، والشركات اللبنانية المنضوية في التحالفات محسوبة على معظم الطيف السياسي اللبناني. كذلك فإن الحديث المتداول عن عمولات ضخمة لا يمكن نقضه كما لا يمكن تأكيده، لكن الشكوك، بحسب معترضين على المناقصة، مشروعة، طالما أن ثمة من أصر على إبعادها عن إدارة المناقصات .
حتى دفتر الشروط جاء ليحترم استقلال الطوائف على حساب المعايير التقنية. فعلى رغم أنه يحق لكل شركة أن تتقدم على المناقصة بهدف بناء محطة أو اثنتين أو ثلاث، إلا أنه في المحصلة لا بد أن تشمل العقود الموقعة كل المحطات. أي في حال صودف أن التحالفات وجدت لسبب أو لآخر أن لا مصلحة لها بالتقدم إلى محطة الزهراني على سبيل المثال، فإن هذا يعني ببساطة إلغاء المناقصة.
وأكثر من ذلك، يوضح مصدر مطلع أن دفتر الشروط فرض توقيع كل العقود فوراً، على رغم أن محطة سلعاتا لن تركّب قبل أربع إلى خمس سنوات، حيث سيسبقها استقدام محطة دير عمار ثم الزهراني. وهذا الحرص لا يكترث عملياً لاحتمال البدء بإنتاج الغاز من البحر اللبناني، حيث ستنخفض تلقائياً الحاجة إلى محطات التغويز، لأن أولوية من أقر المناقصة هي في مكان آخر.