إنّ محاولة تشخيص الحال المزريّة التي آلت إليها الجمهورية اللبنانية المترهلة أو محاولة التفتيش عن نقطة ضوء واحدة يُبنى عليها أضحت نوعاً من العبث وإضاعة الوقت. تتزايد مع كل إشراقة شمس وتيرة الإنحدار الأخلاقي لدى هذه الطبقة الهرمة والفاسدة التي تتقاسم الجمهورية، بكل إمتداداتها المذهبية وتحالفاتها الزبائنية.
والتي لا تبدو عازمة أو لديها الأهليّة للتوقف عند قعر ما. إنّ هذا التراكم اللامتناهي من النفاق والإستباحة المطلقة التي يمارسها كلّ المعنيين بالشأن العام، لم تبقَ مسحةً من الإحترام لأي عنوان سياسي _ قومي أو وطني _ أو إقتصادي يمكن أن ينجذب إليه اللبنانيون، أو يحاكي قيمة ما تختزنها ذاكرتهم، وطبعاً أصحاب العناوين سقطوا قبل عناوينهم وقضاياهم المرفوعة.
نحن كمواطنين عبثاً نفتش في حياتنا اليومية عن حيّزٍ بسيطٍ يُستدل منه أننا في دولة، من الإخفاق في تشكيل السلطة لأسباب أو لعناوين لم تعدّ تهمنا، الى كلّ روايات النفايات والتلوث والفساد والرشوة وانعدام الخدمات التي يدركها القاصي والداني. كيف نستشعر أننا في وطن حيث تنعدم كلّ المساحات المشتركة.
من رصيفٍ بسيط يتساوى المواطنون بالسير عليه، الى نقلٍ مشترك ونظام رعاية صحية ومدرسةٍ رسميةٍ لائقة يساهمون في اندماج المواطنين وإخراجهم من كلّ بوتقة مذهبيّة أو مناطقيّة أو سياسية مقفلة؟ كيف نستشعر أننا في وطن حين يُقدِم وزراؤه وسياسيوه، كلٍّ في إدارته وبكل وقاحة، على توظيف آلاف من المتعاقدين والمياومين والمستشارين من ضمن زبائنيته السياسية والمذهبية والعائلية، يتكدّسون على الأدراج دون حاجة الإدارة لهم.
ودون أن يقيموا أي وزنٍ لآلاف الخريجين الأكفاء ودون مراعاة تكافؤ الفرص الذي تكفله المؤسسات ذات الصلة ، ثم يقترحون بالوقاحة عينها تجريد قطاعات كبيرة من الموظفين والمتقاعدين من حقوقهم المكتسبة دون أن يرف لهم جفن أو أن يشعروأ بأدنى حدّ من المسؤولية الدستورية أو القانونية أو الأخلاقية ؟
وبعد كل ذلك، لا يتورّع شركاء الفشل كلٍّ بدوره، وبشراهة لامتناهية للسلطة، عن سَوق الإتهامات وإثارة الرأي العام بأنّ هناك من يحاول إفشاله أو إفشال العهد أو الوقوف في وجه مخططه التحريري أو التنموي العابر للطوائف والمناطق، في خطاب طائفي مقزز ومتكرر يبعث على الغثيان. لقد سقطت كل عناوينكم وسقطتم معها.
أجل عناوين التحرير والسيادة والإنماء المتوازن ومكافحة الفساد والمؤتمرات الإقتصادية وعودة اللاجئين السوريين كلها أصبحت كليشهات تخفي وراءها جشعكم وتسلطكم وفسادكم وعقمكم المذهبي وإرهابكم الفكري.
السياسيون في لبنان، ولا سيما المحافظون الجدد منهم، لم يخرجوا من فكرة «دولة الطوائف»، هم يعيشون في «لبنان الإمارة»، وبذهنيّة العصبيات المتناحرة على السلطة. إنّ مسألة تكوين السطة في لبنان هي أسيرة اشتباك العصبيات الأهلية والطائفية وتقاطعها مع التحوّلات الإقليمية والمصالح الدوليّة.
التي يجسّدها اليوم الصراع بين مشروعين، الأول تحويل لبنان دفعة واحدة الى إمارة مارونية على يدِ مغامرين جدد والثاني تحويل لبنان بالتقادم جزءاً من ولاية الفقيه على يدِ من لم يقرأوا التاريخ، وسط إشتباك دولي على توزيع النفوذ. هذا الصراع لا بدّ أن يتغلب في نهايته المشروع الأكبر والأوسع، تغلّب المصلحة الدوليّة الذي قد يُبقي على موقع للمحلي ولكن من دون أوهام قوميّة أو وطنية أو دينية كبرى.
ربما من المفيد تذكير دُعاة استعادة الإمارة بالظروف التاريخية التي مرّت بها إمارة جبل لبنان، حين فشل الأوروبيون ولا سيّما الفرنسيون في تحويل الإمارة الدرزية مرة واحدة إلى إمارة مارونية، كما فشلت المحاولة العثمانية المعاكسة بإلغاء الإمارة في الجبل وحكمه مباشرة بواسطة الموظف العثماني.
أتت «تعليمات شكيب أفندي» كحلّ قضى بتقسيم الجبل الى قائمقاميتين، للتغلب على وصف الجبل بأنّه درزي أو ماروني، وبتعيين حكام محليين كموظفين عثمانيين كحلّ وسط بين الإمارة شبه المستقلة والمتوارثة وبين الحكم العثماني المباشر. محاولة استعادة الإمارة قد تعيد معها شكيب أفندي آخر، ولكن متعدّد الجنسيات هذه المرة وليس عثمانياً وربما لأكثر من قائمقاميتين.
العميد الركن خالد حماده