لبنان في العراء الرقمي : عندما يصبح القانون معركة لاستعادة الدولة

خاص بوابة بيروت

هذا ليس مقالًا عن “التحول الرقمي” بمفهومه التقني البارد. هذه شهادة من قلب معركة سياسية “مجتمعية” قانونية ستحدد ما إذا كان لبنان قادرًا على أن يستعيد دولته، أو سيبقى حبيس نظام ورقي متآكل يفتك بكرامة المواطنين ويمنع أي إمكانية للنهوض.

الجلسة الحوارية التي نظّمها مركز ريادة الأعمال في الجامعة العربية المفتوحة – لبنان لم تكن لقاءً أكاديميًا تقليديًا؛ كانت جلسة تشريح للدولة اللبنانية نفسها: بنيتها القانونية، هشاشتها الإدارية، وصراعها بين عالمين… عالم ورقي يحتضر، وعالم رقمي ينتظر من يفتح له الباب.

دولة بلا هوية رقمية هي دولة بلا هوية وطنية

العالم يُدار اليوم بالبيانات:

الهوية، السجلات، الحقوق، الصحة، المعاملات، الطبابة، الضرائب، الأمن… كلّها تتحرك عبر أنظمة رقمية تربط المواطن بالدولة وتبني الثقة.

أما لبنان، فما زال غارقًا في:
•   طوابير لا تنتهي
•   معاملات ورقية
•   أختام بالشمع
•   “مراجعات” ووساطة
•   دوائر توقف مصير المواطن لأن موظفًا واحدًا يحتكر المعلومة

هذا ليس مجرد تأخير إداري، هذا تقويض لحقّ الإنسان في الكرامة، وفي المساواة، وفي الوصول إلى الدولة دون إذلال.

النظام الورقي، كما قال أحد المتحدثين، ليس بريئًا، إنه البيئة المثالية للفساد.

قراءة نقدية لطرح النائب رازي الحاج، أين نقف اليوم؟

عرض النائب د. رازي الحاج مشروع قانون هيئة الرقمنة، وهو خطوة مهمة تُحسب له.

لكن من موقع المراقبة والناشطة المهتمة بتطوير الأنظمة، يجب تحليل المشروع بعمق ومسؤولية.

ما الذي يقدّمه المشروع؟

مشروع القانون يؤسس لهيئة وطنية تكون بمثابة العمود الفقري للدولة الرقمية، ويرتكز على ستة محاور تشكّل أساس العدالة الرقمية الحديثة:

1. حماية البيانات الشخصية:
حقّ إنساني أساسي، لكن الحماية الحقيقية تحتاج إلى قضاء مستقلّ لا يخضع للضغوط.

2. الأمن السيبراني:
ملف أمن قومي… لكن من سيواجه شبكات الفساد التي تستفيد من الفوضى الرقمية؟

3. الهوية الرقمية الموحدة:
وهي الركيزة الأهم.
هوية واحدة تربط:
•   وزارة الصحة
•   الضمان الاجتماعي
•   السجل المالي
•   المعاملات الرسمية
هذا يعني:
•   إنهاء احتكار المعلومة
•   محاربة الفساد عبر الشفافية
•   وصول الخدمة للجميع دون محسوبية

4. التجارة الإلكترونية:
إدماج آلاف الشركات الصغيرة والناشئة في الاقتصاد الرسمي، ومنحها القدرة على التصدير.

5. التوقيع الإلكتروني:
إنهاء رحلة العذاب بين الوزارات والمحافظات من أجل توقيع واحد.

6. تنظيم الشركات الصغيرة والمتوسطة:
اعتراف بأن الاقتصاد الحقيقي يُبنى على مشاريع الناس، لا على الصفقات الكبرى.

المشكلة ليست في التكنولوجيا… بل في الإرادة السياسية

كشف النائب أن استراتيجية التحول الرقمي التي أُطلقت عام 2022 لم تُنفّذ.
هذه ليست مشكلة تقنية… بل فشل مؤسسة سياسي يرفض الشفافية لأنها تعني نهاية الامتيازات.

ما نحتاجه اليوم:
•   شراكة مدنية شاملة في صياغة القانون
•   جلسات استماع علنية
•   جدول زمني مُلزِم
•   مساءلة المتخلّفين عن التنفيذ
•   بناء قدرات الشباب ليكونوا حراس الحوكمة الرقمية الجديدة

القوانين بلا حَراس… تبقى حبرًا على ورق.

المحامي شربل شبير، تفكيك البنية القانونية المهترئة

تدخّل الأستاذ شربل شبير كان مفصليًا. بصراحة ووضوح، وضع إصبعه على مكمن العطب:

القوانين الحالية مبعثرة، قديمة، غير مترابطة، وغير قادرة على حماية المواطن أو تشجيع الابتكار.

شبّه الواقع بمنظومة “طرقات سريعة بلا إشارات مرور”. لا يمكن لريادة الأعمال أن تنمو في بيئة قانونية رمادية.

ولا يمكن لشاب أن يطلق شركة رقمية فيما القوانين تتبدّل كل شهر، أو تُطبّق بانتقائية.

الدكتورة سارة الصيداني، الجامعات كمصانع للوعي الرقمي

قدّمت الدكتورة سارة الصيداني مقاربة جوهرية: لا دولة رقمية بلا مواطنين ومواطنات رقميين.

ولا مواطن رقمي بلا جامعة تفتح له أبواب المعرفة النقدية، لا فقط أبواب قاعات المحاضرات.

الجامعات يجب أن تكون:
•   مراكز بحوث
•   مصانع تفكير
•   حواضن ابتكار
•   منصّات تدريب تقني وريادي

هذه ليست رفاهية، هذه ركيزة دولة حديثة.

ما بين السياسة والعمل العام… ولادة دولة مستقبلية

خلال النقاش، برزت ستة محاور أساسية لبناء منظومة حديثة:

1. إعادة المصالحة مع مفهوم العمل العام بوصفه أداة خدمة لا صراع.
2. الجرأة في الاعتراف بالأخطاء وتصحيحها.
3. تعزيز التعاون الديمقراطي بين المؤسسات.
4. إشراك المواطنين في صياغة القوانين “لا تمريرها على عجل”.
5. جعل القطاع الخاص شريكًا رئيسيًا في التحول الرقمي.
6. تعزيز دور الجامعات والنقابات في إنتاج المعرفة وتطوير المهارات.

هذه ليست طموحات… هذه خريطة طريق.

من قلب التجربة، لماذا أكتب هذا اليوم؟

بصفتي ناشطة تعمل يوميًا مع الشباب، النساء، والبلديات، وأتابع مشاريع الحوكمة الحديثة، أدرك أن التحول الرقمي ليس “مسار تحديث إداري”.

بل هو:
•   تحرير للمعلومة من قبضة الفاسدين
•   تحرير للمواطن من الطوابير والإذلال
•   تحرير للاقتصاد من الفوضى
•   تحرير للوقت الذي يُهدر في المعاملات
•   تحرير للكرامة بوصفها حقًا، لا هدية

مشروع القانون الذي ناقشه النائب رازي الحاج ليس نهاية الطريق، لكنّه خطوة أولى في مسار طويل يجب أن نقوده نحن — المجتمع، لا السلطة وحدها.

هذه المعركة ليست تقنية، إنها معركة وجود دولة… ودولة بلا رقمنة في 2025 ليست دولة.

التوصيات السبعة التي قدّمتها الميسّرة الجلسة الخبيرة الاستراتيجة رندى يسير

1. توحيد الجهود وتعزيز مبدأ التعميم داخل المؤسسات

ضرورة التعاون بين الوزارات، الجامعات، القطاع الخاص، والمجتمع المدني لتبنّي رؤية موحّدة للتحوّل الرقمي، ومنع تضارب السياسات أو ازدواجية العمل.

2. الجرأة في الاعتراف بالأخطاء وتصحيح المسار

التقييم المستمر ومصارحة الذات شرط أساسي لبناء منظومة رقمية شفافة وقادرة على المحاسبة.

3. التوجه نحو العمل الجماعي والشراكات الديمقراطية

إنهاء عقلية العمل المتفرّق واعتماد الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وبين الدولة والمجتمع المدني.

4. إشراك المواطنين والمواطنات في مناقشة القوانين الرقمية

فتح المجال أمام الرأي العام لإبداء الملاحظات على مشاريع القوانين قبل إقرارها، باعتبار المواطن شريكًا في صياغة مستقبل الدولة.

5. تمكين القطاع الخاص كشريك أساسي في التطوير

السماح للقطاع الخاص بدور محوري في بناء البنية التحتية الرقمية، لأن تحديث القوانين والتحول الرقمي يشجّعان الاستثمار الأجنبي ويقويان الاقتصاد الوطني.

6. دور المؤسسات الأكاديمية في رفع الوعي وصياغة الإطار البحثي

الجامعات ليست مؤسسات تعليم فحسب، بل منصّات لبناء المعرفة الرقمية، وإعداد الكفاءات التي تقود التحول على مستوى وطني.

7. تطوير دور النقابات لمواكبة التطور التكنولوجي

تجديد دور النقابات لتأهيل المنتسبين بالمعرفة الرقمية، وتحديث مهاراتهم لمواكبة التحوّل الجديد داخل الاقتصاد وسوق العمل

مستقبل لبنان لا يُمنح… بل يُنتزع

شكرًا للجامعة العربية المفتوحة على فتح باب هذا النقاش، وللمتحدثين الثلاثة الذين وضعوا أمامنا صورة واضحة لواقعنا.

لكن الحقيقة أن الكفاح يبدأ بعد انتهاء الجلسة:
•   عندما يضغط المواطن على نائبه
•   عندما يطالب الشاب بحقه في دولة فعّالة
•   عندما تصرخ الجامعات: “لا تطوير بلا بحث”
•   عندما يصبح المجتمع المدني شريكًا لا زينةً في الصور

لبنان لن ينهض صدفة. سينهض حين نقرر نحن “الذين نحبّه” أن نحميه ونبنيه ونستعيده.

وهذه المعركة… بدأت الآن

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com