خاص بوابة بيروت

كاتبة وناشطة سياسية
في زمنٍ يختنق فيه اللبنانيون تحت أثقال الأزمات، جاءت زيارة البابا إلى بيروت كنسمة هواء نقيّ، حملت معها ما غاب طويلًا، الإحساس بأنّ لبنان لم يُترك وحده، وأنّ السلام ما زال ممكنًا، وأنّ العيش في بلد طبيعي ليس حلمًا مستحيلًا.
لم يستطع البابا زيارة الجنوب بسبب الظروف الأمنية، لكنه حمل الجنوب معه في صلواته، وخاطبه في كل كلمة، وكأنه يقول للبنانيين جميعًا: “أنا هنا لأجل وحدتكم، لأجل صمودكم، ولأجل أن يبقى لبنان رسالة سلام للشرق كلّه.”
هذه الزيارة لم تكن بروتوكولًا عاديًا. كانت لحظة رمزية، روحية، إنسانية… هزّت قلوب الناس وأعادت إليهم شيئًا من الطمأنينة الغائبة.
بروتوكول على مستوى واحد: رسالة مساواة واحترام
من أكثر الجوانب التي لامست اللبنانيين في هذه الزيارة أنّ البابا رفض المظاهر الفخمة وفضّل البروتوكول الرسمي المعتمد من الحكومة، مثل أي زائر رفيع للدولة.
هذه البساطة حملت معنى عميقًا:
• احترام الشعب قبل السلطة.
• مساواة بين الجميع بلا تمييز.
• التزام كامل بسيادة الدولة وموقعها.
في بلد اعتادت فيه الطوائف أن تتنافس على الرموز، جاء البابا ليقول إنّ القيمة ليست في الامتيازات بل في احترام الدولة ومؤسساتها.
وهذا وحده كان درسًا سياسيًا وأخلاقيًا.
زيارة من أجل الشرق كله… لا من أجل لبنان فقط
الرسائل التي حملها البابا كانت واضحة، لبنان ليس جزيرة منعزلة، بل قلب الشرق، وجسر التواصل بين حضاراته، وصوت السلام الممكن في منطقة أنهكتها الحروب.
لهذا جاءت الزيارة أيضًا:
• دعوة إلى نزع الاحتقان الطائفي.
• تأكيد على أنّ العيش المشترك ليس تاريخًا فقط بل مستقبلًا ممكنًا.
• نداء للشرق كلّه بأنّ الاستقرار يبدأ من حماية الإنسان لا من السلاح.
لقد تحرّك البابا ووفده في بيروت كمن يمشي فوق جرح مفتوح، لكنّه مشى بخفةٍ تصنع الطمأنينة، لا بخطابات سياسية تصنع الانقسام.
حين توحّدت الطوائف تحت خيمة واحدة
في ساحة الشهداء، وقف المسيحيون والمسلمون والدروز جنبًا إلى جنب، وارتفعت نصوص من القرآن والإنجيل في مشهد لم يشهده لبنان منذ سنوات طويلة.
لم يكن لقاءً طقسيًا. كان إعلانًا إنسانيًا، أنّ اختلافنا نعمة، وأنّ تلاقي الأديان هو ضمانة وجودنا وليس مصدر خوف.
زرع القادة الروحيون شجرة زيتون، في لحظة شعر فيها الكثيرون أنّ لبنان يمكن أن يعود وطنًا، وطنًا لا ساحة معركة ولا خط تماس بين القوى الإقليمية.
رسالة إلى الشباب: “أنتم طاقة التغيير وصنّاع التاريخ”
لقاء البابا بالشباب في بكركي كان من أكثر لحظات الزيارة صدقًا.
الأسئلة التي طُرحت عليه لم تكن سياسية فقط، بل وجودية:
• هل نبقى أم نهاجر؟
• هل يُمكن أن نعيش بكرامة؟
• هل لنا مستقبل في هذا البلد؟
أجابهم البابا بجملة لامست الكثيرين: “لا تفقدوا الأمل… أنتم قادرون على تغيير مسار التاريخ.”
كانت تلك اللحظة بمثابة اعتراف بأنّ شباب لبنان هم الثروة الحقيقية، وأنّ حماية مستقبلهم لا يتم بالحروب، بل بالسلام، والحياد، والتنمية، والعدالة.
المرفأ: الوقوف أمام جرح الوطن
عند بقايا الصومعة الأخيرة، وقف البابا مع أهالي ضحايا انفجار بيروت، حاملين صور أحبّتهم. لم يتحدّث كثيرًا. ترك للصمت أن يقول ما لا يقال.
هذا المشهد كان رسالة مزدوجة:
1. أنّ العدالة أمر أخلاقي غير قابل للتفاوض.
2. أنّ الدولة التي لا تحاسب لا يمكن أن تبني سلامًا.
قالت إحدى الأمهات: “هذه الزيارة أعادت لنا الإحساس بأنّ العالم ما زال يسمع صوتنا.”
السلام خيارٌ للنجاة… وليس ترفًا سياسيًا
إنّ لبنان اليوم يقف عند مفترق طرق. إما نذهب جميعًا نحو الحياد والسلام والتنوّع، أو نستمر في دوامة الانقسام والارتهان.
زيارة البابا لم تكن حلًا للأزمة، لكنها:
• أعادت إحياء الوعي الجماعي.
• ذكّرت الناس بقدرتهم على الصمود.
• أظهرت أنّ العالم ما زال يرى في لبنان رسالة لا يجب أن تموت.
• منحت المواطنين قوةً روحية يحتاجونها للاستمرار.
ليس المطلوب معجزة، بل قرار، أن نختار السلام بدل الصراع، والاحترام بدل الكراهية، والوحدة بدل الخوف.
لبنان يستحق فرصة… ونحن نستحق وطنًا يشبهنا
ما حمله البابا إلى لبنان لم يكن كلمات فحسب، بل طاقة سلام لامست القلوب. زيارة أعادت إلى اللبنانيين إحساسهم بأنّهم شعب يستحق الحياة… لا البقاء. وأنّ السلام ليس شعارًا، بل حقًا وحماية ومستقبلًا.
لبنان بلدٌ يعاني، لكنه لم ينهزم. وشعبه مُتعب، لكنه لم ينكسر.
واليوم، أكثر من أي وقت، نحن بحاجة إلى مشروع وطني جديد قائم على:
• الحياد الفعّال،
• التنوّع المحمي بالقانون،
• صمود المواطنين،
• ورؤية سلام تشبه أحلام الشباب.
لأنّ لبنان يمكن أن ينهض… إذا نهضنا نحن أولًا.
في الختام… رجاءٌ يواصل الطريق
غادر البابا بيروت بهدوء يشبه روحه… لكنه ترك خلفه أثرًا لا يُمحى.
فالوجوه التي رآها، الأيدي التي صافحها، دموع الأمهات، ابتسامات الشباب، وصوت الشعب الذي يستقبله بمحبة رغم كل الجراح كلّها حملت له رسالة واحدة، أنّ هذا الوطن يستحق أن يُنقَذ.
وبحسب المقرّبين من وفده، فإنّ أكثر ما لمسه خلال زيارته هو تلك القدرة الفريدة عند اللبنانيين على المحبة، والكرامة، والصمود حتى وهم يقفون فوق ركام أزماتهم.
رأى فيهم شعبًا لا يستسلم… وشعبًا لا يزال يؤمن بالخير رغم كل ما حدث.
وهذا المشهد الإنساني ترك فيه إصرارًا أكبر على متابعة مساندة لبنان، وعلى الدعوة إلى احترام كرامة الإنسان فيه، وعلى العمل مع المجتمع الدولي لإبقاء لبنان بلدًا آمنًا، محايدًا، وممكنًا للعيش.
لقد غادر البابا جسديًا، لكن الزيارة تركت وراءها توقًا جماعيًا إلى السلام، ورغبة صادقة بأن يعيش لبنان بكرامة، وأن يستعيد مكانته كأرض رسالة… لا ساحة صراع.
وإذا كان السلام يبدأ بخطوة، فإنّ تلك الخطوة بدأت هنا، مع الحب الذي رآه البابا في عيون الناس، ومع التعاطف الذي أحاطه في كل مكان، ومع الإصرار الجديد على أن يعيش لبنان بعد كل هذا في أمان، ومحبة، وسلام.