بقلم جاد الاخوي
في بلد مثل لبنان، كل قرار يحمل أكثر من حجمه.
تعيين السفير السابق سيمون كرم على رأس الوفد اللبناني في اللجنة التقنية العسكرية ليس حدثًا يبدّل المعادلات بين ليلة وضحاها، لكنه يفتح بابًا خطيرًا وواضحًا للسؤال الحقيقي: هل الدولة اللبنانية عادت لتتصرّف كدولة؟ أم أننا أمام خطوة تجميلية تُخفي العطب العميق في بنية القرار اللبناني؟
منذ سنوات طويلة، يُدار ملف الجنوب بالعاطفة أو بالأحادية. مرة بالميدان، مرة بتوازن الردع، ومرة بخطابات من فوق. لكن الدولة كمؤسسة غابت تمامًا عن طاولة القرار. لم يكن هناك من يعكس موقف لبنان الرسمي تجاه العالم. لم يكن هناك “وفد” ينطق باسم الجمهورية. كان هناك واقع مفروض: حرب تهدأ أو تشتعل وفق مصالح المحاور، فيما الدولة تتفرّج.
من هنا تكمن أهمية تعيين سيمون كرم ليس بشخصه فقط بل بمعنى أن الدولة تحاول أن تخرج رأسها من بين الركام لتقول: أنا هنا.
أولاً: خطوة نحو استعادة القرار السيادي
سيمون كرم شخصية غير حزبية، وغير منخرطة في لعبة المحاور، وغير محسوبة على أحد. رجل قانون ودبلوماسية وخبرة.
اختيار شخص بهذه المواصفات يعني أن هناك محاولة ولو متأخرة لإعادة الملف إلى مساره الطبيعي: أي إلى مؤسسات الجمهورية لا إلى ساحات الاشتباك.
هذا التعيين يزعج كثيرين، وهذا سبب إضافي لنجاحه.
بعض القوى تخاف من أي خطوة تُخرج الجنوب من الفوضى.
وبعضها يريد الإبقاء على الخط الفاصل بين الدولة والقرار الأمني.
وبعضها الآخر يخشى أن يظهر الجيش شريكًا فعليًا في القرار بدل أن يُستخدم كواجهة.
لكن مهما كانت الاعتراضات، التعيين يرسل رسالة واحدة: لبنان لم يعد مستعدًا للاكتفاء بدور المتفرّج.
ثانيًا: خطوة في الشكل تحتاج إلى قرار في الجوهر
لكن هنا يكمن الخطر الحقيقي.
أن يتحوّل التعيين إلى “ترقيع”، أي خطوة شكلية لتحسين الصورة أمام الأميركيين والفرنسيين والأمم المتحدة، من دون أي مضمون سيادي فعلي.
الجنوب ليس ملفًا تقنيًا.
هو ملف سيادي، سياسي، استراتيجي، متشابك مع إيران وإسرائيل وواشنطن وحزب الله وفرنسا واليونيفيل… ومع السقف الأمني للرئاسة والجيش والحكومة.
أي محاولة لإدارته بلا غطاء سياسي واضح ستسقط مهما كانت مهارة الوفد.
المعادلة بسيطة:
الدولة إما أن تدخل كاملة إلى غرفة التفاوض… أو لا تدخل.
وجود سيمون كرم لا يكفي.
يجب أن يكون هناك موقف لبناني موحد، سقف تفاوض واضح، خطوط حمراء محددة، وإرادة سياسية تحمي الوفد.
من دون ذلك، سيبقى الوفد “جميلة شكلية”، وستبقى إسرائيل اللاعب الأقوى في الطاولة والحدود.
ثالثًا: بين سيناريو الدولة وسيناريو الفوضى
اليوم أمام لبنان مفترق واضح:
سيناريو الدولة
حيث يصبح تعيين كرم نقطة انطلاق لعودة الدولة إلى الجنوب،
ولعب دور مباشر في تثبيت الحدود،
وإعادة الاعتبار للدبلوماسية،
ومنع الانفجار،
وإعادة بناء الثقة الدولية.
هذا السيناريو يحتاج قرارًا كبيرًا، لا تعيينًا صغيرًا.
سيناريو الفوضى
حيث يتحوّل التعيين إلى ورقة لتسكير العيون،
ويبدأ الداخل يتقاتل على “من يفاوض باسم من”،
وتستغل إسرائيل الانقسام،
ويصبح الوفد بلا سند،
ويُسحق الملف بين لعبة المحاور.
وهذا السيناريو هو ما يعرفه لبنان جيدًا، وقد اختبره مرارًا.
رابعًا: لماذا سيمون كرم تحديدًا؟
البعض يسأل وكأنه يبحث عن لغز:
لماذا سيمون كرم؟
الجواب بسيط: لأن الدولة تحتاج إلى شخص “لا يجر معها صلات معمودية سياسية” ولا يرتبط بمشروع إقليمي.
ولأن الأميركيين يريدون مفاوضًا مدنيًا.
ولأن الإسرائيليين أرسلوا مدنيًا.
ولأن لبنان لا يستطيع أن يواجه العالم بوفد عسكري فقط في لحظة دقيقة.
الأهم: لأن الرجل لا يشكّل تهديدًا لأحد، ولا انتصارًا لأحد.
هو خيار “مهني” في بلد غرق لسنوات في الخيارات العقائدية والمسلّحة والمتشنجة.
خامسًا: القرار الحقيقي أمامنا الآن
تعيين سيمون كرم ليس بداية الحل، لكنه بداية السؤال:
هل الدولة مستعدة للعودة إلى دورها؟
هل الرئيس مستعد لفرض مرجعية واضحة؟
هل الحكومة مستعدة للدعم؟
هل القوى السياسية مستعدة لوقف المناكفات؟
هل الجيش مستعد للجلوس جنبًا إلى جنب مع مدني يمثّل الدولة؟
والأهم:
هل القوى التي تمسك بالميدان مستعدة لترك مساحة للدولة كي تتنفس وتتفاوض وتقرر؟
إذا كان الجواب “نعم”، يمكن للتعيين أن يصبح نقطة تحول.
وإذا كان “لا”، فسيمون كرم سيكون آخر من يدخل هذه الغرفة… قبل أن تعود اللعبة إلى أهل الميدان وحدهم.
في النهاية هذا التعيين ليس حدثًا هامشيًا.
إنه اختبار.
اختبار لمقدار ما تبقّى من دولة في لبنان.
اختبار لقدرة المؤسسات على أن تقول “أنا صاحبة القرار”،
واختبار لقدرة السياسيين على التراجع خطوة لصالح منطق المصلحة الوطنية.
إنها لحظة صغيرة بحجمها…
لكنها كبيرة بمعناها:
إما أن يستعيد لبنان سيادته على الحدود، أو يستمر في دفع ثمن غيابها.