منارة في العتمة
–
بقلم كوثر شيا – خاص بوابة بيروت
@kchaya

كاتبة وناشطة سياسية
في السادس من كانون الأول، نعود إلى ميلاد كمال جنبلاط، الفيلسوف والرائد الذي لم يكن مجرد شخصية سياسية، بل كان ضميراً متقداً في جسد هذا الوطن، وفكراً يمشي بين الناس كما يمشي الضوء بين العتمات. حضور كمال جنبلاط اليوم، رغم غيابه، يظل أعمق من حضور كثيرين يملؤون المشهد بلا رؤية ولا بوصلة.
كان كمال جنبلاط نسيجاً فريداً من الحكمة والشجاعة. هو فيلسوف في جوهره، ورائد إصلاح في مسيرته، ومناضل لا يتراجع أمام حق ولا يصمت أمام ظلم. لم يكن زعيماً بالمفهوم التقليدي، بل كان نموذجاً قيادياً استثنائياً تحدّى الإقطاعيات والانقسامات، ورفع راية الدولة المدنية العادلة التي تقوم على المواطنة لا على المحاصصة، وعلى الكرامة لا على رصيد الطائفة.
وكلمته الشهيرة أنا مع المظلوم ولو كان ظالماً، وضد الظالم ولو كان مظلوماً لم تكن شعاراً للترف الفكري، بل كانت البوصلة التي سار بها كمال جنبلاط في كل معاركه من أجل الفلاحين والفقراء والمهمشين، ومن أجل تحرير الإنسان من قهر الداخل واستبداد الخارج.
واليوم، في ظل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وتلاشي مؤسسات الدولة، وسقوط العملة، وتراجع كرامة المواطن أمام منظومة فساد مترسخة، يبرز غياب كمال جنبلاط كفراغ روحي وفكري لا يمكن تعويضه. نتساءل أمام هذا الخراب أين هو ذلك المفكر الإصلاحي الذي جمع بين الرؤية السياسية وعمق الإحساس بالإنسان؟ أين النموذج القيادي الذي لم يتحدث بلسان الطوائف، بل بلسان الوطن الواحد؟
نفتقد كمال جنبلاط لا لنصنع منه رمزاً رومانسياً، بل لنستعيد صوته الذي كان يمكنه أن يخترق ضباب هذا الزمن الرديء ويعرّي بنية الفساد التي تخنق حياتنا. نفتقد نظرته التي رأت لبنان رسالة للتنوع والتعايش، لا ساحة تتقاسمها المصالح والولاءات. نفتقد حلمه بالدولة المدنية التي تحمي أبناءها، وتؤمن الأمان والازدهار، وتبني السلام على القانون والعدل لا على موازين القوى.
صحيح أن الطريق نحو تلك الدولة يبدو اليوم طويلاً وشاقاً، فالمنظومة المترابطة متجذرة، تحميها مصالح الداخل وتمتد جذورها إلى الخارج. لكن إرث كمال جنبلاط لم يكن يوماً دعوة إلى اليأس، بل دعوة إلى الوعي والشجاعة. علّمنا أن التغيير لا يُهدى من الأقوياء، بل يُنتزع ممن يمتلك الإرادة والرؤية والتنظيم.
لذلك، فإن استحضار كمال جنبلاط في ذكرى ميلاده هو دعوة لإحياء المقاومة الفكرية والأخلاقية، مقاومة تبنى على الوعي والصدق والشجاعة، وعلى الإيمان بلبنان الذي يمكن أن يكون مهما طالت العتمة. هو تذكير بأن معركتنا من أجل المحاسبة والدولة المدنية التي تصون كرامة الإنسان هي الطريق الأصدق لتكريم مسيرته.
الطريق صعب والجدار عال، لكن قوة الفكرة العادلة حين يحملها أصحاب الإرادة قادرة على صنع أثر لا يزول. وفي ميلاد كمال جنبلاط، دعونا نجدد العهد مع رؤيته، فلبنان الذي حلم به لبنان السلام والعدالة والازدهار ما زال يستحق أن نكافح لأجله، وما زال ينتظر من يشبهه في حكمة رؤيته وفي عمق إنسانيته.
في ذكرى ميلاد كمال جنبلاط في السادس من كانون الأول 1917، تبقى فلسفته نوراً يرافقنا في أحلك ساعات الوطن.
كناشطة وثائرة من هذا الوطن الجريح، أحمل آلام الناس كما أحمل رجاءهم، أتمنى من كل من عاش فكر كمال جنبلاط وتأثر بصفائه وعمق رؤيته أن يعمل ليكون لهذا النهج مدرسة تُدرَّس وتُصان، مدرسة تُعيد لشباب لبنان حقهم في الحلم وحقهم في وطنٍ يليق بنبضهم. فلبنان لا ينهض إلا بوعي أبنائه، وبقدرتهم على تحويل الخيبة إلى قوة، والانكسار إلى حكمة، والخوف إلى جرأة تمهّد الطريق نحو دولة مدنية عادلة تحترم الإنسان قبل كل شيء.
نحن بحاجة إلى منظومة تُعيد بناء الإنسان، وتزرع في المجتمع قيم الحرية والعدالة والكرامة، وتمنح الأجيال الجديدة فرصة أن تظل هنا، في أرضٍ تتّسع لأحلامهم، لا أن تُدفع بهم نحو الاغتراب. نحتاج إلى وطن يُعامل أبناءه كقيمة، لا كأرقام، وكطاقة خلاقة لا كعبء.
وهذه كلمتي الختامية، بصوت امرأة تؤمن بأن الشرارة الصغيرة قادرة على إشعال صبحٍ جديد، إنّ فكر كمال جنبلاط ليس مجرد ذكرى تُستحضر، بل نورٌ يمكن أن يهدي خطواتنا في أقسى اللحظات. وإن طال الليل، سيظل هناك من يحرس الأمل. لبنان، رغم كل الجراح، ما زال يحمل في داخله بذور النهوض، وما زال يستحق أن نقف لأجله، أن نحبّه بصلابة، وأن نتمسك بالضوء مهما أحاطتنا العتمة.
وهذا هو عهدي كناشطة وثائرة، أن أبقى مؤمنة بأن التغيير يولد من الإصرار، وأن الشكر لكل من يحمي هذا الحلم واجبٌ في القلب قبل الكلمة، وأن الأمل هو القوة التي تُبقينا واقفين حتى يأتي الفجر الذي نصنعه بأيدينا، لا بانتظار أحد.