بقلم بلال مهدي – خاص بوابة بيروت
@BilalMahdiii

رئيس التحرير
في كل مرة يدخل فيها لبنان مرحلة حسّاسة، يخرج الشيخ نعيم قاسم ليعيد إنتاج الخطاب نفسه، تهديد، تهويل، ادعاء خطر وجودي، وتغطية سياسية على مشروع لا يريد الخضوع لرقابة الدولة ولا لسلطتها.
ما يسمّيه “ثباتًا” لم يعد إلا صدىً باهتًا لصوت فقد قدرته على التأثير، وصار أقرب إلى النعيق منه إلى الكلام السياسي.
لبنان اليوم منهك، مدمّى، بل مهدد بالزوال. ومع ذلك، يواصل الشيخ تسويق رواية قديمة، عفى عليها الزمن، تُسقط البلاد في الحلقة نفسها، سلاح خارج الدولة، قرار خارج المؤسسات، ومصير معلَّق بيد مجموعة لا تفهم معنى الدولة إلا من زاوية المصلحة.
خطاب يجرّ البلاد إلى الوراء
الشيخ يكرّر أنّ المشكلة ليست السلاح، بل “مشروع لإلغائهم”. وهذا القول وحده كافٍ لإدانة منطق كامل يعيش على تغذية الخوف داخل بيئته، بدل تحويل هذه البيئة إلى قوة منتجة داخل الدولة.
اندثار الدولة ليس قدرًا، بل نتيجة لمنعها من ممارسة سلطتها. السلاح الموازي لم يحمِ لبنان، بل أخضعه لأجندة لا تشبهه، وأبقاه ساحة مشتعلة لا تهدأ.
يقول الشيخ إن لا وجود لشيء اسمه “جنوب الليطاني” وإن كل ما يجري هو شأن داخلي. لكن الحقيقة أن الجنوب كله اليوم رهينة قرار لا يملكه أهله ولا جيش دولتهم.
أهل الجنوب يريدون الاستقرار، يريدون الزراعة والاقتصاد والمدارس والطرقات، لا المزيد من فصول الحرب التي تُفتح بلا أي رؤية واضحة.
الجنوب لا يحتاج إلى صرخة، بل إلى دولة. ولا يحتاج إلى “جهوزية” ميليشيوية، بل إلى مؤسسات تُمسك زمام الأمن وتضمن ألا تكون قرى الجنوب خطوط تماس عند كل مفترق سياسي.
يحاول الشيخ إقناع اللبنانيين بأن البديل عن السلاح هو الاستسلام، وبأن التخلي عن منطق الميليشيا يعني سقوط البلد.
لكن الواقع أثبت العكس، البلاد تنهار لأن الدولة غائبة، لا لأنها موجودة.
والفوضى تنتشر لأن القرار بيد من لا يخضع للمساءلة، لا لأن اللبنانيين يطلبون دولة قادرة.
الحل البديل… دولة لا تُدار بالاقتطاع
لا يحتاج لبنان إلى مزيد من الشعارات، ولا إلى خطابات مرتفعة السقف تُهدر ما تبقّى من وقت وفرص. البلد يحتاج مشروعًا وطنيًا واضحًا، يعيد ترتيب الأولويات على قاعدة بديهية، لا نهوض بلا سيادة، ولا استقرار بلا دولة، ولا دولة بلا مؤسسات تمتلك قرارها.
إنّ أي محاولة لإنقاذ لبنان تبدأ من استعادة السيادة كاملة من دون استثناءات أو مناطق رمادية. فلا يمكن لبلدٍ أن ينهض فيما تُدار أجزاء منه بمنطق “الإذن المسبق”، وتُحكم مناطقه الحساسة بعقلية الأمر الواقع. السيادة ليست وجهة نظر، واستعادتها ليست ترفًا سياسيًا، بل شرط وجودي لدولة تبحث عن بقائها.
ويتطلب ذلك إعادة الاعتبار إلى الجيش اللبناني عبر خطة عاجلة وشاملة لتسليحه. البلد بحاجة إلى منظومات دفاع جوي فاعلة، وقدرات ردعية حقيقية، ونظام استخباراتي متطور يواكب التهديدات المتسارعة. فالدولة التي لا تمتلك جيشًا قادرًا تصبح مسرحًا للآخرين، والجيش الذي يعمل تحت سقف سلاح موازٍ يفقد دوره وميزته وشرعيته.
كما أن المرحلة الإقليمية الراهنة تفرض على اللبنانيين الالتفاف حول دولتهم. لا يمكن للبنان أن يظل ساحةً لصراعات الآخرين فيما أبناؤه يدفعون الثمن. الخيار واضح، الدولة لا المحاور، الوحدة الوطنية لا الانقسام، الجيش لا المجموعات المسلحة. وهذه ليست رفاهية سياسية، بل شرط لبقاء لبنان على خريطة الدول.
وتبقى مسألة قرار الحرب والسلم حجر الأساس في أي مشروع إنقاذي. لا بلد يستقر إذا فُتح على حروب لا يقررها برلمانه ولا حكومته. حماية لبنان تبدأ من إنهاء حالة الاستثناء التي حوّلته إلى ساحة مفتوحة بدل أن يكون دولة محكومة بالدستور والمؤسسات.
يقف لبنان اليوم أمام مفترق تاريخي حاسم، إما أن يبقى أسير خطابات التجييش وشعارات “الصوت الواحد”، أو أن يدخل مرحلة جديدة يكون عنوانها الدولة دون سواها. الإصرار على الخطاب الأحادي ليس مقاومة، بل عجز عن مواجهة الواقع. ومحاولات إحياء معادلات سقطت ليست سوى تأكيد على أنّ الأزمة أعمق من الكلمات، وأن النعيق مهما علا لا يصنع قوة ولا يحمي وطنًا.
لبنان لا يحتاج من يصرخ أعلى، بل من يبني دولة أقوى
لبنان لا يعيش على الحافة… بل يُدفع إليها
لقد سمع اللبنانيون كل أنواع الوعود، وكل تبريرات استمرار السلاح، وكل روايات “الانتصار”. لكنهم لم يروا دولة، ولم يروا استقرارًا، ولم يروا مستقبلًا.
آن الأوان لقول الحقيقة بصوت عالٍ، لبنان لن ينهض إلا بالدولة. ولن يحميه إلا جيشه. ولن يتوحد إلا عندما يُسقط منطق الوصاية المسلحة.
غير ذلك ليس مقاومة… بل وصفة مؤكدة لسقوط الوطن.