بقلم كوثر شيا – خاص بوابة بيروت
@kchaya

كاتبة وناشطة سياسية
كل ظهر، تتكرر القصة نفسها أمام المدارس الخاصة في لبنان. صفوف طويلة من السيارات، أبواق مزعجة، وقوف عشوائي في كل الاتجاهات، توتر في الوجوه، وطفل لا يستطيع أن يمشي عشرين متراً لأن أهله خائفون.
مشهد بسيط في الظاهر، لكنه مرآة لاختلال أعمق بكثير: كيف نربي أبناءنا، وكيف نفهم التعليم، وكيف تتهرّب الدولة من مسؤولياتها وتترك العائلة تقاتل وحدها.
من المدرسة إلى السيارة، طفولة بلا خطوات
في دول كثيرة، يوجد أرصفة آمنة، ممرات مشاة واضحة، حافلات مدرسية منظمة، وشرطة سير تحمي الأطفال في أوقات الذهاب والإياب.
هناك، يمكن للطفل أن يمشي، أن يلتقي بأصدقائه، أن يتعلم كيف يعبر الطريق، وأن يكوّن علاقة طبيعية مع الشارع والحي والمجتمع.
في لبنان، الطفل يخرج من باب المدرسة إلى باب السيارة.
لا أرصفة، لا تنظيم، لا أمان. الشارع فوضى، والسيارات تحتل كل مساحة ممكنة، والوقت كله مستعجل.
هكذا نزرع في الطفل فكرة أن العالم مكان خطر، وأنه لا يستطيع أن يتحرك وحده، وأنه دائماً بحاجة لمن يحمله ويوصله ويحميه.
نظن أننا نحميه، لكننا في العمق نحرمُه من أبسط دروس الحياة.
كلفة كل هذا… على كاهل الأهل وحدهم
بدل أن تكون المدرسة جزءاً من نظام عام منظم، أصبحت مشروعاً خاصاً كاملاً تدفع العائلة ثمنه وحدها.
أقساط مدرسية بالدولار، نقل خاص، دروس خاصة، ونفقات إضافية لا تنتهي، خصوصاً عندما يكون هناك أكثر من طفل في البيت.
والأخطر أن لبنان يمتلك قانوناً كاملاً خاصاً بالنقل المدرسي، هو القانون 551 الصادر سنة 1996، الذي يفرض:
• وجود مرافق داخل كل حافلة
• تحديد عدد الركاب حماية للسلامة
• تسجيل الحافلات رسمياً لدى الجهات المختصة
• الالتزام بمعايير واضحة لحماية التلاميذ
لكن كل ذلك لا يُطبّق. القانون موجود… والرقابة غائبة. وفي السنوات الأخيرة، شهد لبنان ارتفاعاً مقلقاً في حوادث باصات المدارس، ما كشف فراغاً كبيراً في الإشراف والسلامة.
الدولة غائبة. لا نقل مدرسي عاماً. لا تخطيط للمناطق المحيطة بالمدارس. لا رؤية مرورية تحمي الأطفال وتخفف الضغط.
كل شيء مبني على مبادرة الأهل ومال الأهل وقلق الأهل.
حماية… أم مبالغة تخنق الطفل؟
خوف الأهل مفهوم في بلد لا يحترم الشارع فيه الإنسان. لكن مع الوقت تحولت الحماية الضرورية إلى حماية زائدة. طفل لا يمشي. لا ينتظر. لا يستخدم النقل العام. لا يختبر الشارع ولا يختبر نفسه.
ينشأ جيل يطالب بالراحة في كل شيء، يرفض أي تعب بسيط، ولا يحتمل أي مجهود جسدي أو مسافة قصيرة سيراً على الأقدام.
نربي أطفالاً مدللين، كثيري الطلبات، قليلَي الاحتمال، ثم نستغرب لاحقاً لماذا لا يتحملون ضغوط الحياة.
بعد المدرسة، ضغط دراسي وواجبات بلا رحمة
لا تنتهي المشكلة عند باب المدرسة. في كثير من المدارس الخاصة، يعود الطفل إلى البيت محملاً بالواجبات والدفاتر والملفات والمشاريع. يُعامل وكأنه مشروع جامعي صغير لا كطفل يحتاج إلى اللعب والراحة والحركة.
يمضي الطفل ساعات المساء بين الدروس والدورات الخاصة والشاشات، ثم يُطلب منه أن يكون هادئاً ومتوازناً وسعيداً.
لا وقت للّعب الحر، ولا لاستكشاف الطبيعة، ولا لإبداع بسيط ينشأ من الفراغ الجميل.
التعليم الحقيقي لا يكون بزيادة الواجبات، بل بتخفيف الضغط وإعطاء مساحة للنفس والعقل والجسد.
المدارس الرسمية… رغم جراحها أكثر صدقاً مع المجتمع
رغم كل ما تعانيه المدارس الرسمية من نقص في الموارد وغياب الدعم، إلا أنها تحتفظ بعناصر فقدتها الكثير من المدارس الخاصة:
• تنوع اجتماعي وثقافي حقيقي
• احتكاك بين أبناء طبقات مختلفة
• شعور أوسع بالمواطنة والانتماء للوطن لا للمدرسة وحدها
• قدرة على رؤية واقع البلد كما هو لا كما نحب أن نراه
طفل المدرسة الرسمية يرى لبنان كما هو. طفل المدرسة الخاصة يُعزل أحياناً في فقاعة من الامتياز والخوف معاً.
لهذا، لا يكفي أن نسأل: أيهما أقوى أكاديمياً؟ يجب أن نسأل أيضاً، أيهما يصنع مواطناً أفضل وإنساناً أكثر وعياً بالآخر؟
أين التربية على المواطنة والخدمة العامة؟
واحدة من أكبر نقاط الضعف في نظامنا التعليمي هي غياب ثقافة الخدمة العامة.
نادر جداً أن نرى طلاباً منظمين في برامج تطوع حقيقية: تنظيف حديقة، زيارة دار مسنين، دعم حملة بيئية، مساعدة أهل منطقة فقيرة، أو المشاركة في نشاط لإنقاذ نهر أو غابة.
هذه التجارب هي التي تبني:
• حس المسؤولية
• احترام الآخر
• القدرة على العمل ضمن فريق
• فهم معنى أن يكون الإنسان جزءاً من مجتمع لا يعيش وحده
يمكن أن تصبح المرحلة المتوسطة والثانوية مساحة مثالية لإدخال ساعات إلزامية من الخدمة العامة، بالتعاون مع البلديات والجمعيات.
بهذا نربي جيلاً يعرف أن الوطن ليس مدرسة وبيتاً فقط، بل شارع وحي وقرية ومدينة وحياة مشتركة.
أزمة صحية صامتة: ماذا يأكل أطفالنا؟
في الداخل، لا نجد سياسة غذائية واضحة. لا برنامج وطني حقيقي للوجبات المدرسية. لا رقابة جدية على ما يباع عند أبواب المدارس وفي حوانيت الساحة.
النتيجة معروفة، رقائق، شوكولا، مشروبات مليئة بالسكر والألوان، ومأكولات سريعة تدمّر المناعة والتركيز والنوم على المدى البعيد.
وهنا تبرز المفارقة، هناك برنامج محترم بدعم من برنامج الأغذية العالمي WFP، يوفر وجبة يومية لأكثر من 107000 طفل في أكثر من 323 مدرسة رسمية.
لكن غالبية أطفال لبنان، أي أكثر من 70 بالمئة المسجلين في المدارس الخاصة، لا يحصلون على أي برنامج غذائي منظم.
نطالب أطفالنا بالهدوء والتركيز والتفوق، ثم نغذي أجسادهم بكل ما يسرّع التوتر والعصبية والتشتت.
من أبسط حقوق الطفل في المدرسة أن يحصل على خيار غذائي صحي واحد على الأقل وبسعر مقبول، وأن تُمنع المأكولات الأكثر ضرراً داخل الحرم المدرسي.
أي طفولة نريد؟
إذا كان الطريق من المدرسة إلى البيت مرآة حقيقية لِما نعيشه، فإن الصورة اليوم قاسية:
• أطفال لا يمشون
• أهل منهكون مالياً ونفسياً
• دولة غائبة عن النقل والسلامة والتغذية
• مدارس تضغط بالواجبات وتنسى الحياة
• غياب شبه كامل لبرامج المواطنة والتطوع والخدمة العامة
ومع ذلك، التغيير ممكن إذا قررنا:
• تنظيم محيط المدارس لتشجيع المشي وتأمين الأمان
• تطبيق القانون 551/1996 بصرامة
• إطلاق نقل مدرسي عام تدريجياً
• وضع سياسة واضحة للواجبات المدرسية تخفف الضغط عن الطفل والعائلة
• دعم المدارس الرسمية لتكون نموذجاً في المواطنة والعدالة الاجتماعية
• إدخال التطوع والخدمة العامة كجزء أساسي من المنهج
• اعتماد سياسة غذائية مدرسية صحية وبسيطة
دعوة من قلب أم ومعالجة وناشطة
أنا لا أكتب كناقدة من بعيد، بل كإمرأة ترى وجوهاً متعبة كل يوم، لأهالٍ يركضون بين العمل والمدرسة والبيت، ولأطفال أجسادهم صغيرة وحملهم كبير.
الطريق من المدرسة إلى البيت يمكن أن يصبح بداية لوعي جديد، وعي بأن الحماية الحقيقية ليست في إغلاق الطفل داخل السيارة، بل في فتح الطريق أمامه ليعيش طفولة كاملة، متوازنة، حرة، ومسؤولة.
أطفال لبنان يستحقون طريقاً آمناً، ومدرسة عادلة، وتربية تصنع منهم مواطنين، لا مجرد طلاب بشهادات مرهقة وأعصاب متعبة.