معرض بيروت العربيّ الدوليّ للكتاب : افرحْ يا قلبي !

بقلم عقل العويط

السبت افتُتحت الدورة الرابعة والستّون لمعرض بيروت العربيّ والدوليّ للكتاب، في إيماءةٍ عنيدة إلى أنّ الحبر لا يزال بخير، بصحّةٍ جيّدة، يقفز زاهيًا على السطور، كمثل فتى في العشرين، وأنّ الأمناء على هذا “السائل الأسوَد النقيّ” يواصلون مهمّة صناعة البياض والضوء، على رغم ما يعانيه “لبنان الشاعر” من ظلماتٍ وأهوال، وما يُرتكب في حقّه وحقّ مواطنيه من انتهاكاتٍ وجرائم، أقلّ ما ينبغي أنْ تواجَه به، أنْ يتمّ تحويلُ القتلة، من مافياتٍ وعصاباتٍ سياسيّة وماليّةٍ وأمنيّة، على المحاكم التي تتولّى قضايا ودعاوى قانونيّة من مثل “الجرائم ضدّ الانسانيّة”.

لا يستوقفني الكتاب في كلّ لحظة، بل يشدّني إليه، ويسرقني، ويُغرّقني فيه، ويجعلني أعيش حياةً (طبيعيّةً) موازيةً ومضافةً عبر صفحاته. الكتاب هو جسدي، وبيتي، وهو حياتي اليوميّة تقريبًا، بما هو، وبما فيه من بصرٍ وبصيرةٍ وتبصّر وولوجٍ واستكشافٍ وانكشافٍ وحلمٍ واختراعٍ وتأويل. فكيف لا يشدّني، والحال هذه، معرض الكتاب البيروتيّ (وأيّ بيروت؟!) في هذه اللحظة الكابوسيّة، فأنظر إلى أجنحته ورفوفه وعناوينه، ولا سيّما منها الشعريّة والروائيّة والنقديّة والفكريّة والفلسفيّة (والانسانويّة مطلقًا)، فلا يسعني إلّا أنْ أقول مرحبًا أيّها الكتاب، يا أخي وصديقي وأبي وأمّي وأختي. مرحبا أيّها الامتلاء المحبّر بثقافة الحرّيّة.

لا تشدّني التظاهرة في كونها تظاهرة، بل في كونها حالة، ومعنى داخل المعنى، أي تحته، خلفه، أمامه، وأبعد منه قليلًا وكثيرًا. حيث ممّا يُرى، وحيث ممّا ليس ثمّة حاجةٌ ليُرى، كي تنضح مراياه، كي ترشح، وتشي باليقظة القلبيّة، وبفتنة العقل. هكذا سيكون أمامنا الكثير من الحبر الأنيق لنترفّق به، ويترفّق بأرواحنا المألومة، وأجسادنا المطعونة. حبرٌ كالذي يُقرأ في رواية، في ديوان، على طريقة الموسيقى، على طريقة الحبّ، والحلم، والحرّيّة. إذ ليس مثل الحبر ما يجعل الوجود أكثر قابليّةً للعيش، وأكثر قدرةً على الزوغان، بل الانتقام من اللّاعيش الذي نحياه ها هنا والآن. علمًا أنّ العيش الكريم يحتاج إلى خبزٍ وماءٍ ورداء. وكم يحتاج العيش في الحدّ الأدنى من شروطه إلى فسحة هواء، على شرط أنْ تكون الفسحة خضراء زرقاء ونقيّة، لا على طريقة الغبار النيتراتيّ والخراب العموميّ الذي يصدأ قصديره في أيّامنا الممروضة.

وأجدني في المعرض، معرض الكتاب، كأنّه ليس في بيروت هذه. كأنّه في بيروت تلك، الممكنة في كلّ وقت، على رغم أنّها لا تزال تبدو مستحيلةً الآن وهنا. بيروت الممكنة بالقوّة الفلسفيّة، والدائمة الاحتمال بسلطة الحلم، يجب أنْ تظلّ دائمة الاحتمال والولادة، بل القيامة من عثرات الموت الطويل، وواجبة الوجود بالفعل، لأنّها حاجةٌ للجغرافيا، للتاريخ، للراهن، للحاضر، للمستقبل، وخلاصٌ للعقل والقلب، وطريقة للخروج من المأزق، ولاختراق الجدار المسدود، ولأنّها مشروعٌ للحلّ، هو المشروع العقلانيّ والواقعيّ الوحيد، حيث لا بدّ – أكرّر: لا بدّ – من أنْ يتخلّى فيه الزعران والبلطجيّة والسرّاق والقتلة (قسرًا) عن دعاراتهم الممقوتة التي باتت أطروحةً غير قابلة للاستمرار ولا للتطبيق.
ليس ما يمكن التسوية فيه، ها هنا، والآن. كالتسوية اللّامعقولة التي تقول بـ”وجوب” التعايش بين الديموقراطيّة والإرهاب، بين الدولة واللّادولة، بين الكتاب والساطور، بين الشاعر والديكتاتور، بين الوحش والطفل، بين الأمّ وقاتل ابنها. الآدميّ ليس له موضعٌ في هذه التسوية، ولا الشاعر، ولا الكاتب، ولا الفنّان، ولا الكريم، ولا الفقير، ولا المريض، ولا الحالم، ولا القانونيّ، ولا الدستوريّ، ولا القابل بالدولة والمُطالب بها. فكيف لنا أنْ نقبل بتسويةٍ مسمومةٍ كهذه التي تُعرَض علينا لـ”القبول” ببقاء لبنان كيفما كان، ولانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة كيفما كان، ولسواها من الاستحقاقات كيفما كان؟!

لا يزال كتاب الورق هو الدستور، وإنْ زيدت صفحاتٌ عليه، تندرج في وسائط العالم الالكترونيّ والافتراضيّ، وقد تكون صارت جزءًا من الضرورة العصريّة. وها أنا أقرأ كتبًا الكترونيّة على سبيل الضرورة والمعايشة، لكنّي أصرخ متأفّفًا متضايقًا مستنكرًا في أعماقي: كيف لي أنْ أقرأ (جيّدًا) قصيدةً إذا لم تكن على صفحة كتاب، وديوانًا بين دفّتي كتاب؟! فكيف بكتابٍ فلسفيّ، وعلميّ، وإلى آخره؟! مكتبتي ومكتبة الاسكندريّة ومكتبة بورخيس ومكتبة صديقي الشاعر، لا تزال هي مقهايَ والملجأ والعزاء.

أعود قليلًا إلى معرض الكتاب البيروتيّ هذا، وأنا يتملّكني الذهول الإيجابيّ المستغرب، فأتساءل: كيف لبلادٍ كهذه، لم يبق فيها نقطة ضوءٍ واحدة، كيف لها، كيف لكتّابها الأفراد العزّل ولدور نشرها (الخاصّة طبعًا)، وكيف لقرّائها، أنْ يظلّوا يلجأون إلى هذا الحبر الناسك الزاهد الفقير (لا إلى غيره) لينتجوا هذا الضوء، حين كلّ شيء “رسميّ” و”سلطويّ” و”عموميّ” لا ينتج سوى الحلكة. حتّى ليسأل سائلٌ في هذه الغمرة مستفهمًا باستغرابٍ واستهجان: أيجب أنْ نمنح رئيسًا للحكومة، أو أيّ رئيسٍ أوّل وثانٍ وكلّ مسؤولٍ رسميٍّ آخر (في لبنان) حظوةَ أنْ يفتتح معرضًا للكتاب، أنْ يلقي كلمةً في تظاهرةٍ ثقافيّةٍ أو فكريّةٍ أو انسانويّة، وأنْ يضحك، ويبتسم، ويختال، هو الذي (أيًّا يكن)، كما غيره من أهل الطبقة السياسيّة والماليّة المشؤومة، يوغلون في ممارسة أبشع ما يمكن أنْ يتخيّله المرء من احتقارٍ للحبر وللحياة والكرامة البشريّة والحرّيّة؟!

بقدر ما يدعوني الكتاب ومعرضه إلى اغتنام هذه الفرصة الطيّبة، إلى انتهازها، إلى اقتناصها، والتعمشق بحبالها الواهية (والوهميّة)، والسفر على بساطها، لتوسيع بقعة الضوء والأمل والمعرفة والمناعة الروحيّة، يدعوني بالقوّة نفسها إلى التمسّك بـ”الحقّ” في الثورة على الوضع الهمجيّ القائم، وعلى رموزه، ورؤوس أفاعيه، وقواه، وأطرافه، وشبكاته السرّيّة والعلنيّة الرهيبة.

الكتاب يستحقّ لبنان، ولبنان على رغم عيوبه المؤسّسيّة والبنيويّة، يستحقّ الكتاب. على أنْ يكون هذا الكتاب لا تظاهرةً استعراضيّةً وموسميّة، ولا مناسبةً رسميّةً “يحتلّها” مسؤولٌ سياسيّ، بل أنْ يكون وجودًا حيويًّا كاملًا يسري في الهواء فيكون نسيمه سببًا لإنعاش رئتَي لبنان القتيل، ليعود لبنان إلى حقيقته، “لبنان الشاعر”، وإلى ممارسة حياته الخلّاقة الطيّبة الحرّة في ذاته، وفي عالمه العربي، وعلى الساحل الشرقيّ لهذا البحر الأبيض المتوسّط.

لا يزال عندنا كتاب، فـ”افرحْ يا قلبي”.

اخترنا لك