بقلم غسان صليبي
يُطرح خيار السلام وكأننا لسنا في حرب، ويُطرح خيار التطبيع وكأننا في حالة سلام. في الواقع لا حوار جدي في البلاد حول الخيارات بل جدال من منطلق الخصومة السياسية، وتُترك للتطورات الاقليمية مسؤولية تقرير مصيرنا وفرض خياراتها علينا.
نحن في لبنان في حرب. ربما لا يزال البعض، “الممانع” او “الشيوعي” او “الناصري” او “الإخواني”، يصرّح وكأنه لا يريدها ان تتوقف بل ان تشمل البلدان العربية كافة…بوجه إسرائيل. لا حاجة لمناقشة هذا البعض لأنه لا يطرح ما يمكن مناقشته بالوقائع والتحليل، بل بالتمنيات والتوقعات الايديولوجية.
موقف حكومتنا واضح ويؤيدها معظم الشعب اللبناني، وهي تريد وقف الحرب عبر تطبيق القرار ١٧٠١، والعودة الى إتفاق الهدنة. إتفاق الهدنة يرسي حالة من السلم بين البلدين كما كان سائداً قبل إتفاق القاهرة. السلم هو واقع حال وليس سلاماً دائماً بالضرورة اذا اعتبرنا ان السلام يتطلب اتفاقية جديدة بين البلدين تبني سلماً دائماً.
السلام بهذا المعنى سابق لأوانه، لكن لا خيار لنا اليوم الا السلم. الاستمرار بالحرب بحجة رفض السلام مع اسرائيل، هو انتحار في ظل موازين القوى الحالية. الاستمرار بالتهديد بعودة “المقاومة” اذا لم تنسحب اسرائيل هو دعوة لتوسيع مساحة الاحتلال، وللمزيد من الانهيار على مستوى “حزب الله” و”بيئته” والبلاد بشكل عام.
هل هذا يعني تقبل استمرار الاحتلال وتبعات الاعتداءات الاسرائيلية شبه اليومية؟ طبعاً لا.
هل هذا يعني الإكتفاء بالتعويل على الدبلوماسية؟ بالتأكيد لا، بحسب التجربة الأخيرة. لكن هذا لا يعني أبداً تبرير احتفاظ “حزب الله” بسلاحه، ليس فقط لأن هذا السلاح لم يعد يعوّل عليه، بل لأنه أفضل حجة لبقاء الاحتلال، ولإستثارة النزاع الأهلي المسلح.
ما العمل اذاً؟ فلنعترف ان لا خيار مضمون النتائج مع بقاء نتنياهو وتبنيه لاستراتيجية الحرب تحقيقاً لإسرائيل الكبرى. يبقى ان هناك خيارات افضل من الأخرى.
بإعتقادي ان حصر السلاح بيد الدولة هو خطوة على الطريق الصحيح. فلتتضح بعد ذلك الصورة محلياً، عربياً ودولياً: اسرائيل تحتل لبنان ولم تعد في هذه الحالة، تدافع عن نفسها بوجه “حزب الله”.
كيف تواجه الدولة اسرائيل اذا استمرت بإحتلال ما تحتله وبتكرار الاعتداءات؟ مجددا الدبلوماسية لا تكفي، فلا يستطيع الجيش اللبناني الا ان يرد اذا بقي شعبنا يتعرض للقتل وللرعب، وارضنا مصيرها الخراب.
هل يستطيع الجيش ان يردع اسرائيل عسكرياً؟ بالطبع لا. هل تستطيع الدولة أن تردعها دبلوماسياً بعد أن يرد الجيش عسكرياً؟ ربما، وبالتأكيد ستكون حظوظ النجاح أكبر بكثير في غياب “حزب الله” عن المشهد، وبالاعتماد على القانون الدولي.
هل ستستغل اسرائيل الصراع العسكري والدبلوماسي مع لبنان لاستدراجه الى السلام؟ بالتأكيد. هل يحجم لبنان عن الصراع العسكري والدبلوماسي مخافة استدراجه الى السلام؟
قبل الإجابة عن السؤال، يجب التنبه الى ان لبنان في هذه المرحلة يكون قد حصر السلاح بيد الدولة وتجاوز الانقسام الداخلي الكبير حول هذه المسألة، وبدأ جيشه يقوم بمسؤولية الدفاع عن الشعب والأرض. في هذا السياق تصبح مسألة السلام مع اسرائيل، او اكثر تحديداً، مضمون اتفاقية السلام، قابلاً للنقاش والاقرار في إطار المؤسسات الدستورية وليس عبر دينامية النزاع الأهلي، كما هي الحال اليوم. ولتقرر المؤسسات الدستورية، ولا خيار لنا غير ذلك، ما تراه مصلحة للبنان.
لكن حتى الآن، يربط لبنان دخوله في السلام مع اسرائيل، بالتوصل الى حل الدولتين وفقاً للمبادرة العربية. ماذا لو ابتعدنا أكثر فأكثر عن حل الدولتين، كما هو جاري اليوم، واستمرت الدول العربية بتطبيع علاقاتها مع اسرائيل، منفردة، واحدة تلو الأخرى، التحاقاً بما بات يُعرف باتفاقيات أبراهام؟ هل نبقى ننتظر وحدنا على قارعة الطريق؟ مؤسساتنا الدستورية هي وحدها من يملك الجواب ومن يتحمل المسؤولية أمام الشعب والوطن. ولتكن الانتخابات النيابية المقبلة مناسبة لبلورة المواقف حول هذه المسألة المصيرية بالنسبة للبنان.
لكن السلام لا يعني بالضرورة التطبيع، فتطبيع العلاقات على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مسار معقد أعطتنا مصر والاردن أمثلة حية عن تعثره شعبياً في ظل طغيان مشاعر العداوة بين الشعوب العربية واسرائيل، المفترض ان تتعاظم، نتيجة ما حصل في لبنان وما يحصل في غزة والضفة الغربية. ليس منطقياً بالتالي التحجج مسبقاً برفض السلام بحجة رفض التطبيع. الا اذا أصبحنا مدمنين على الحرب وويلاتها وهزائمها الحتمية.