بقلم غسان صليبي
“أطلق مسلحان فلسطينيان من الضفة الغربية النار عند محطة للحافلات على مشارف القدس يوم الاثنين في ٨ ايلول الحالي، مما أسفر عن مقتل ستة أسرائيليين وجرح آخرين، ووصفت الشرطة الحادث بأنه هجوم إرهابي”، وهو الوصف نفسه الذي اطلقه نتنياهو على العملية.
اعتبرت حماس أن هذه العملية “ردّ طبيعي على جرائم الاحتلال وحرب الإبادة التي يشنّها ضد شعبنا، وهي رسالة واضحة بأن مخططاته في احتلال وتدمير مدينة غزة وتدنيس المسجد الأقصى لن تمرّ دون عقاب”.
كيف يمكن وصف عملية القدس آخذين بعين الاعتبار الظرف السياسي الذي نُفذت فيه؟
“الإرهاب، بمعناه الأوسع، هو استخدام العنف ضد غير المقاتلين لتحقيق أهداف سياسية أو أيديولوجية. وتؤكد التعريفات المختلفة للإرهاب على عشوائيته، وهدفه غرس الخوف، وتأثيره الأوسع خارج نطاق ضحاياه المباشرين.”
هذا التعريف للارهاب، بكل عناصره، ينطبق تماما على ما تقوم به اسرائيل في فلسطين المحتلة، فهل ينطبق أيضا على العملية في القدس كما زعم نتنياهو؟ ما هو اكيد هو ان العملية تستخدم “العنف” وهي “ضد غير المقاتلين”، وانها “غرست الخوف” وتأثيرها “خارج نطاق ضحاياها المباشرين”. بحسب التعريف أعلاه ما ينقص هذه العملية لوصفها ب”الارهابية” هو التساؤل ما اذا كان الغرض منها “تحقيق أهداف سياسية أو ايديولوجية”؟
لم يصدر بيان عن منفذَي العملية يمكن الاستناد اليه لتحديد أهدافها المعلنة. وإذا افترضنا ان للعملية علاقة بحركة حماس التي باركتها، فيمكن القول بحسب بيان الحركة، ان لا هدف سياسي لها بالمعنى المألوف، بل هي مجرد “رد” و”عقاب” على ما يقوم به الاحتلال في غزة وكذلك على “تدنيس المسجد الاقصى”.
اما اذا وضعنا العملية في سياقها السياسي فنلاحظ انها حصلت في لحظة تقاطع بين أربعة “استحقاقات”: انتظار ترامب لرد حماس على اقتراحه “الأخير”، تزخيم الهجوم على مدينة غزة، تكرار التصريحات الاسرائيلية حول ضرورة ضم الضفة الغربية، ترقب انعقاد المؤتمر الدولي من أجل فلسطين في ٢٢ ايلول، حيث من المتوقع أن يشهد اعترافاً واسعا بالدولة الفلسطينية.
من شبه المستحيل ان يكون لعملية القدس أي تأثير سياسي إيجابي يمكن ان يخدم مصلحة الفلسطينيين أو حماس او السلطة الفلسطينية في مسارات الاستحقاقات الأربعة.
اذا استبعدنا احتمال ان تكون اسرائيل هي من دبرت العملية لأنها تخدم مصلحتها بشكل كلّي، وهو غير مستبعد، اميل الى الاعتقاد اننا أمام سلوك فلسطيني عنيف، لكن لا هو “ارهاب” بالمعنى السياسي، ولا هو مقاومة مسلحة بالمعنى العسكري.
لم يحصل ان كان الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين مهددا كما هو اليوم، ولم يحصل أيضاً ان كان العجز الفلسطيني في التصدي للواقع العسكري والسياسي، بهذا الوضوح وهذه القسوة، أمام عيون الفلسطينيين، قبل أن يكون أمام عيون إسرائيل والعالم.
في إحدى مقابلاته سأل محمود درويش صحافية اسرائيلية، بشجاعة وغصة عميقتين: ” هل تعرفين لماذا نحن الفلسطينيين مشهورون؟ لأنكم انتم أعداؤنا. إن الاهتمام بنا نابع من الاهتمام بالمسألة اليهودية، اذاً نحن قليلو الحظ في أن تكون إسرائيل عدونا، لأنها تحظى بمؤيدين لا حد لهم في العالم، ونحن أيضا محظوظون ان تكون إسرائيل عدونا لان اليهود هم مركز اهتمام العالم. الحقتم بنا الهزيمة ولكن منحتمونا الشهرة”.
لو اردنا ترجمة مقولة محمود درويش بتعابير وجودية لقلنا “ان الفلسطينيين موجودون في وعي العالم لأن إسرائيل عدوهم.” لكن عندما قال درويش ما قاله لم يكن وضع الفلسطينيين وقضيتهم بهذا السوء ولم يكن الافق بالنسبة لفلسطينيي غزة والضفة مسدوداً الى هذا الحد. اليوم بلغت شهرة الفلسطينيين ذروتها في العالم مع تعاظم الاجرام الاسرائيلي، وانخفاض مذهل في عدد مؤيدي اسرائيل والمتعاطفين معها، تُوِّج بمصادقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، الجمعة في ١٢ ايلول، بغالبية ساحقة على «إعلان نيويورك» الذي انبثق من «المؤتمر الدولي الرفيع المستوى للتسوية السلمية لقضية فلسطين وحلّ الدولتين»،
غير ان كل ذلك يحصل للأسف، على وقع هزيمة لم يتوقعها درويش عندما تكلّم عن الهزيمة، هزيمة ربما لن تبقي شعباً وأرضاً ليكوّنا معاً دولة فلسطينية.
ليسمح لي الفلسطينيون ان افترض ما اعتقدُه الأقرب الى الحقيقة عن “الحالة الوجودية” للشابين عند قيامهما بعملية القدس، وليعذروني إن أخطأت التقدير.
عُرف ديكارت Decartes بمقولته “انا افكر اذا انا موجود”. وقرأنا عند كامو Camus ان لا سبيل لإعطاء معنى للوجود في عالم عبثي غير عقلاني تفتقر الحياة فيه الى غرض موضوعي، الا عن طريق الانتفاض على الواقع وإعطاء معنى لما نقوم به. انه وجود يحتاج الى فكر ليؤكد وجوده عند ديكارت، ووجود يحتاج الى فعل يعطي معنى لوجوده بالنسبة لكامو.
لا شك ان الاحتلال يجعل العالم أكثر عبثية، وغير قابل للفهم منطقياً بالنسبة للانسان الواقع تحت الاحتلال، وعلى الارجح ان كامو اختبر ذلك في معايشته للاحتلال الفرنسي في الجزائر. فسؤال “لماذا الاحتلال؟” يصطدم بعبثية الجواب الذي لا يعدو كونه سوى تبرير لعنف الاقوى، المجرّد من اي معنى آخر، الا بالنسبة لتبريرات المحتل وداعميه التي تكون عادة ذات مصدر ديني او ايديولوجي لا يخضع لأي منطق علمي او لأي قانون.
حاول الفلسطينيون إعطاء معنى لوجودهم في ظل الاحتلال، كانوا “موجودين” بالفكر كما في الفعل، في محاججة فكر الاحتلال كما في مقاومة احتلاله، سلميا وعسكريا.
اليوم يفشل الفكر ومعه الفعل، في إعطاء معنى للوجود الفلسطيني، في ظل الابادة والتهجير، وعجز القانون الدولي ومواقف معظم الدول وشعوبها عن وقف العنف الاسرائيلي. لم يعد الفكر ولا السياسة يجديان، ولم تعد الانتفاضة السلمية ولا المقاومة العسكرية تفعلان فعلهما. لم يبقَ امام الفلسطيني سوى عمليات انتقامية يؤكد من خلالها انه يتألم وهو موجود. عمليات بدون هدف سياسي لكن بعيدا عن التفجيرات الاستشهادية- الانتحارية حتى الآن.
وكأني بالفلسطيني يقول لإسرائيل وللعرب وللعالم اجمع :” انا فلسطيني اذاً انا غير موجود، انا انتقم من الإسرائيليين اذاً انا موجود…حتى ولو قُتِلتُ بعد دقائق قليلة من استعادتي لهذا الوجود.”