يسار جديد بعد الاحتفال بذكرى إنطلاقة “#جمول” ام بعد إحياء ذكرى إغتيالها؟

بقلم غسان صليبي

غادر وفد حزب الله الإحتفال بذكرى انطلاقة “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” في صيدا منذ ايام قليلة، بعد قول اسامة سعد في كلمته ان المقاومة تمذهبت في حين أنها كانت وطنية من قبل، اي في بداياتها ايام “جمّول”. وفي سياق كلمته أيّد حصرية السلاح بيد الدولة مطالبا إياها في الوقت نفسه بالدفاع عن لبنان بوجه العدوان الاسرائيلي.

استغرب كثيرون موقف حزب الله ومن بينهم يساريو “جمّول”، وشُنت حملة بالمقابل من جماعة حزب الله على النائب سعد الذي كان يُعتبر في السابق حليف الحزب.

انا لم استغرب موقف وفد حزب الله بل موقف الذين استغربوا موقفه. فماذا كانوا ينتظرون منه كردة فعل على موقف سعد؟ هل يُعقل انهم كانوا ينتظرون منه التصفيق لأنهم يتوقعون ان يقوم الحزب بمراجعة نقدية لتجربته وهو قد بدأ ينبذ مذهبة المقاومة؟ هل يمكن أن يكونوا بهذه السذاجة؟

يجري الاحتفال بذكرى انطلاقة “جمّول” منذ سنوات عديدة، وذكرى “الانطلاقة” لم ولا تزعج حزب الله، طالما انها لا تأتي على ذكر ، لا “نهاية” جمّول ولا من اوصلها الى هذه النهاية. والذين كانوا يحيون المناسبة كانوا في السابق يحبسون أنفسهم وانفاسهم في أطار “الانطلاقة”، ولا يتجاوزون زمنها الا نادراً جداً.

اما اليوم وقد انكسرت شوكة حزب الله عسكريا، راحت ترتفع أصوات منتقدة له ولمقاومته حتى من بين حلفائه. وقد استبق الحزب هذه الانتقادات بهجوم مضاد، فعرضت قناة الميادين وثائقيا عن تاريخ المقاومة مستثنية ما قامت به “جمّول”، وكأن كل شيء بدأ مع حزب الله، اي في وقت لم يكن الحزب قد ولد بعد.

لم يكن من المتوقع أن يسكت حزب الله عن تذكيره بجريمته بحق “جمّول”، حتى ولو أن اسامة سعد لم يتكلم عن “جريمة” ولا عن إقصاء بالقوة، بل عن “مذهبة المقاومة”. وكأن عملية المذهبة هذه كانت مجرد خطأ في التقدير الاستراتيجي وليست نتيجة طبيعية لإحتكار المقاومة بالقوة من قبل حزب مذهبي أنشأه الحرس الثوري الايراني بهدف تصدير الثورة الاسلامية. وما كان احتكار المقاومة، والتي لا يمكن ان تكون الا مذهبية مع حزب الله، الا شرطا من شروط إنجاح هذا التصدير.

في الواقع لم يجرِ “مذهبة” المقاومة، كما طيّفت القوات اللبنانية مثلاً “المقاومة اللبنانية”، بل ان المقاومة مع حزب الله أصبحت ممارسة دينية تتجاوز المفهوم الديموغرافي للمذهبة، وهذا ما يفسر اليوم تكرار ممثلي حزب الله ان سلاحه هو سلاح الله وهم مستعدون للموت من أجل الحفاظ عليه. واذا كان من خلاف بين مقاومة “جمّول” ومقاومة حزب الله، فيجب النظر اليه في هذا الاطار، اي في اطار الصراع بين من يريد اسلمة المجتمع ومن لا يزال يحلم ربما ببناء مجتمع ديمقراطي علماني. والتقليل من حدة هذا التناقض بين المشروعين ليس إلا استمرارا لهذا التكاذب الذي طبع العلاقة بين الطرفين منذ أن اغتال طرفٌ الطرف الثاني.

نعم لم يعد هناك من فائدة من الإكتفاء بالاحتفال بذكرى انطلاقة “جمول”، فقد اصبح ذلك بالمعنى السياسي، بمثابة بكاء على الاطلال. كل الفائدة اليوم هي في استخراج كل العبر السياسية من اسباب إغتيالها، ووعي الدور السياسي والإيديولوجي والاقليمي للذين أغتالوها، مع التوقف بشجاعة وموضوعية، أمام ظاهرة خضوع أطراف وازنة من جماعة “جمّول”، في سياساتهم وتحالفاتهم، للنتائج العسكرية لهذا الاغتيال.

إحياء ذكرى إغتيال “جمول” وليس إنطلاقتها، هو المعبر الضروري لإعادة إحياء يسار لبناني شكل العمود الفقري المكسور
ل”جمول”. ويحتاج هذا اليسار الى إعادة الاعتبار في تحاليله، للتأثير الكبير للإيديولوجيا الدينية في مجرى الأحداث، على غرار ما فعل غرامشي في تقييمه للدور الكبير للثقافة وللايديولوجيا المهيمنة، وبالتالي عدم الاكتفاء بتكرار النظريات حول الصراع الطبقي والهيمنة الامبريالية، رغم فائدة بعضها، اذا ما وُضع في ظروفه الموضوعية الحالية. ويترتب على ذلك بالطبع الالتفات أكثر الى أهمية الحريات الفردية وحرية الفكر وحقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق العمال والنساء بشكل خاص، ولو ادّى ذلك الى الاصطدام بالإيديولوجيا الدينية.

الا اذا فضّل هذا اليسار الاستمرار بالتلطي خلف مقولة “التناقض الرئيسي مع الخارج والتناقض الثانوي مع الداخل”، لتفادي هذا الاصطدام. (يمكن مراجعة مقالي حول التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي في صحيفة “النهار”).

نستطيع بسهولة ملاحظة انكفاء حزب الله العملي وليس اللفظي في مجال مقاومة اسرائيل، والاكتفاء بالمقابل بالتركيز على النفوذ الداخلي، من جهة من خلال انتقاد الدولة وتحميلها كامل مسؤولية مواجهة الاحتلال وبموازاة التحضير للإنتخابات النيابية، ومن جهة ثانية من خلال استعراض قوته بشكل استفزازي في شوارع بيروت وإصراره على عرض صورة السيد نصرالله على صخرة الروشة، وذلك بمناسبة ذكرى إغتياله. وليست مناشدة نعيم قاسم للمملكة العربية السعودية “لفتح صفحة جديدة” مع “المقاومة” الا مؤشرا قويا على هذه الاستدارة نحو الداخل، الذي بات ب”رعاية” مشتركة بين المملكة والولايات المتحدة الاميركية.

رب ضارة نافعة مع ان ضررها كبير: فمع هذا العجز الوطني العام عن مقاومة الاعتداءات الاسرائيلية وعن اجبار اسرائيل على الانسحاب من المواقع التي لا زالت تحتلها، هناك فرصة للانكباب على إعادة بناء الدولة وتطوير المجتمع وتقويتهما، ليس بالمعنى العسكري فحسب، بل بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ولا يمكن ليسار ان يجد هويته الجديدة التي يبحث عنها، االا من خلال الانخراط في عملية البناء الداخلي هذه. كما انه لن يكون بالإمكان تصوّر مقاربة لتحرير الوطن والدفاع عن استقلاليته الا على ارضية هذا البناء الداخلي المنشود.

أقامت منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني(منظمة العمل الشيوعي سابقاً) بمناسبة الذكرى 43 لانطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ندوة حوارية يوم الخميس الفائت تحدث فيها أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني حنا غريب ورئيس المكتب التنفيذي للمنظمة زكي طه بعنوان “دور اليسار أمام تحديات بناء الدولة ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي”. اهمية هذه الندوة انها جمعت طرفي اليسار اللذين أطلقا “جمّول” وهما يحاولان اليوم أن يجدا طريقاً للعمل بين تحديات الداخل والخارج.

قراءة في مداخلات الندوة يحتاج الى مقال جديد. أكتفي بالاشارة الى انها اتجهت نحو تجاوز حدث انطلاقة “جمّول” الى ما بعد إغتيالها، دون ان تستخلص بعد كل ما يترتب على هذا التجاوز من صراعات سياسية داخلية.

اخترنا لك