هُزم الفلسطينيون عسكريًا وانتصروا أخلاقيًا : ماذا عن السياسة؟

بقلم غسان صليبي

يكاد الفلسطينيون ان يُهزموا كلياً على المستوى العسكري في غزة فيما الضفة الغربية بدورها شبه ساقطة عسكرياً. بالمقابل انتصر الفلسطينيون أخلاقياً من خلال اعتراف اكثرية دول العالم واكثرية الشعوب بالدولة الفلسطينية.

اقول انتصروا أخلاقياً وليس سياسياً بعد. ذلك ان الانتصار السياسي يأتي مع قيام الدولة. فضلا عن ان الفلسطينيين لم يربحوا الاعتراف بدولتهم عن طريق السياسة، او الدبلوماسية بتعبير أصح. فلا السلطة الفلسطينية ولا حماس كانت ناشطة او فاعلة دبلوماسياً، وقد فاقم الانقسام الفلسطيني عجزهما الدبلوماسي.

الوحشية الاسرائيلية التي لم تعد تجد اي تبرير لها، لا قانوني ولا سياسي ولا أخلاقي أمام العالم، هي التي حرّكت الشعوب قبل حكوماتها، هذه الشعوب التي تعاطفت أخلاقياً مع القتلى والجرحى وضد التدمير المنظّم الذي تقوم به اسرائيل، ما دفع بالحكومات الى ترجمة هذا التعاطف دبلوماسيا عبر الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

بدا لي الاعتراف بالدولة الفلسطينية خاصة من الحكومات الأوروبية ومن شعوبها، كفعل “الاعتراف” أمام الكاهن بالخطايا التي يرتكبها الإنسان المسيحي، طالباً من الكاهن الغفران. ومثله مثل الاعتراف الكنسي، يحتاج هذا الاعتراف الى تكفير عن الذنوب ومتابعة على الارض لتضميد الجراح التي تسببت بها الخطايا. فكيف اذا كانت هذه الجراح بحجم تدمير غزة والتحضير لتهجير أهلها بموازاة التصميم على ضم الضفة الغربية الى إسرائيل وتشجيع أهلها على الهجرة، ما يجعل من قيام الدولة الفلسطينية على أرض فلسطين مهمة شبه مستحيلة؟

الابادة الجماعية التي تطال الفلسطينيين في غزة، ذكّرت الاوروبيين بلا شك ب”الهولوكست”، اي بالمحرقة اليهودية، هذه المحرقة التي كانت السند الأخلاقي الأول لدعم قيام الدولة الاسرائيلية على الارض الفلسطينية. وجاءت معها تهمة “اللاسامية” لكل من يتجرأ على انتقاد سياسات إسرائيل او حقها بالوجود، كضامن أخلاقي فعل فعله في بلدان العالم وخاصة الغربية منها.

هذه “اللاسامية”، التي لا تعني في الواقع اليهود وحدهم بل الشعوب السامية الأخرى ومن بينها الشعب الفلسطيني، ارتدّت على الاسرائيليين الذين يرتكبون اليوم “لاسامية” مماثلة لكن بحق الفلسطينيين، يشبه ما ارتكبته أوروبا بحقهم. لذلك لم يعد باستطاعة العالم ان يغض الطرف عن ابادة جماعية للفلسطينيين بحجة الوفاء لذكرى الهولوكوست اليهودي.

بهدف تحقيق مشروع الدولة يحتاج الفلسطينيون الى رؤية سياسية ودبلوماسية واقتصادية واجتماعية وثقافية بعيدة المدى، يُتفق عليها في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.

اعتقد ان الأولوية اليوم هي لوقف عمليتي تهجير غزة وضم الضفة، حتى يبقى بعض الامل لقيام دولة فلسطينية على ارض فلسطين وليس خارجها، ويفترض ذلك على ما اعتقد أيضا مقاربة متعددة الاتجاهات:
– العمل على توسيع المبادرة السعودية – الفرنسية من اجل حل الدولتين لتصبح تحالفا دوليا واسعا يضم اكبر عدد من الدول، والاتفاق على خطة مشتركة وضاغطة، دبلوماسية- اقتصادية – ثقافية- اخلاقية، لإجبار إسرائيل على التراجع عن مشاريعها.
– التنسيق مع الداخل الاسرائيلي والداخل الاميركي المعارضَين لسياسة نتنياهو وترامب بشأن فلسطين. إيقاف نتنياهو عند حده وربما اسقاطه يعتمد بالدرجة الاولى على المعارضتين الاسرائيلية والاميركية.
– الاستفادة القصوى، تنظيميا وعبر بناء الشبكات، من التعاطف الأخلاقي الشعبي العالمي مع القضية الفلسطينية.

ليس تحقيق هدف الدولة سهلا على الاطلاق ويحتاج الى الكثير من المعنويات ومن الصبر ومن العمل الهادف والمنظّم. لكن مجرد اعتراف العالم بدولة فلسطينية هو حدث من شأنه ان ينتشل كثيرين من الاحباط، فلسطينيين وعرباً خاصة. وهو بهذا المعنى يحتاج الى يوم احتفال من المؤمل ان تحدده وتعلن عنه السلطة الفلسطينية.

الأهم من الاحتفال ان يقتنع الفلسطينيون ان الاعمال العسكرية، الا بحدود الدفاع عن النفس، لم تعد تجدِي نفعاً اليوم، وهي قد تقلّص من الدعم العالمي الأخلاقي، وتؤدي خدمة عظيمة لوحشية إسرائيل، التي تتغذى منها، كما تغذت من “طوفان الاقصى”.

من الضروري الاعتراف بالدور المركزي للتعاطف الانساني الاخلاقي العالمي ولفعاليته في الآونة الأخيرة في مجال توسيع حجم الاعتراف بدولة فلسطين، وذلك على عكس الاعتقادات السابقة، خاصة في العلاقة مع الغرب وشعوبه التي تفاعلت بشكل كبير مع المأساة الفلسطينية، خاصة اذا قارنا ذلك مع تقاعس الحكومات والشعوب العربية والاسلامية. بمعنى آخر على شعب فلسطين والشعوب العربية ان يتصالحوا مجددا مع منظومة “حقوق الانسان” العالمية بعد ان نبذوها كردة فعل على مواقف البلدان الغربية التي تدعو الى احترامها في العادة، لكنها تجاهلتها بعد “طوفان الاقصى” مباشرة.

والمرجو أيضاً من الفلسطينيين بناء سياساتهم المستقبلية بالاستناد الى هذا الانتصار الأخلاقي وبالتوافق مع قيمه. ما يقتضي مسبقاً حسم مسألة الوحدة الفلسطينية احتراما لتضحيات شعبهم وانقاذا لقضيتهم التي تحتاج لرعاية بمستوى العناية الفائقة في المستشفيات.

وسيكون من الخطأ الاعتقاد، ان “طوفان الاقصى” هو الذي أعطى دفعا للقضية الفلسطينية. فمباشرة بعده خسرت القضية الفلسطينية الكثير من التأييد على مستوى الحكومات وهيئات المجتمع المدني في العالم، مقابل دعم متزايد لإسرائيل. ولم تستَعِد القضية الفلسطينية أهميتها الا بعد “الطوفان الاسرائيلي” الذي عاد وقلب الاتجاهات الحكومية والشعبية لتصبح ضده في معظم دول العالم.

اخترنا لك