بقلم غسان صليبي
ليس هناك اسوء من تحوّل الصراع بين رئيس الحكومة الذي يريد تطبيق القانون و”حزب الله” الذي رفض تطبيقه بما يتعلق باحتفالية “صخرة الروشة”، الى صراع بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية المؤتمن على تطبيق الدستور الذي هو على رأس القوانين. وكم هو مؤسف ترجمة هذا الصراع بين الرئيسين من خلال تقليد رئيس الجمهورية لقائد الجيش وسام الأرز من رتبة الوشاح الأكبر كرد على تحميل رئيس الحكومة لقائد الجيش مسؤولية عدم تطبيق القرار السياسي. الا يدرك رئيس الجمهورية انه بهذا العمل لا يناكف رئيس الحكومة بقدر ما يضرب معنى حصرية السلاح بيد الدولة والتي يدعو اليها، فهذه الحصرية تعني اولا بأول خضوع السلطة العسكرية والسلاح للسلطة السياسية؟
اللافت في الصراع على “صخرة الروشة” ان جميع حجج “حزب الله” لا تتطرق او انها لا تريد ان تناقش الحق بإستخدام الملك العام من مثل “صخرة الروشة” لأغراض خاصة وبدون ترخيص من المراجع المعنية، او الحق بمخالفة القانون الذي جسده قرار رئيس الحكومة بمنع عرض صور نصرالله وصفي الدين على صخرة الروشة. وكأن لا شيء اسمه “ملك عام” او “قانون” في عرف حزب الله، وليس القانون الا هذه القواعد العامة التي يتفق عليها اللبنانيون عبر مؤسساتهم الدستورية ذات الصفة العامة.
ليس جديدا في لبنان ان يعتدي الخاص على العام، كما ان تعتدي الأطراف السياسية على المعالم العامة، من مثل وضع صورة الرئيس بشير الجميل على صخرة نفق نهر الكلب او صور زعماء آخرين على معالم أخرى. وهذا ما يحتاج الى معالجة أيضا.
ولطالما حظي القطاع الخاص بالقيمة العليا بالمقارنة مع القطاع العام في الذهنية اللبنانية، وقد تُرجم ذلك عبر الدولة نفسها، وهي الممثلة مبدئيا للقطاع العام، من خلال سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية الداعمة للقطاع الخاص. وهذا ما بقي ثابتا منذ الاستقلال بإستثناء المرحلة الشهابية.
اما في هذه المرحلة المسماة مرحلة “الإنقاذ والاصلاح” بحسب الحكومة، فلم تتغيّر بعد هذه السياسات، لكن ما بدأ يُعتمد كسياسة عامة ثابتة تميّز المرحلة الجديدة، هو الحرص على تطبيق القانون، عبر القرارات الحكومية والأحكام القضائية. ويجب النظر الى حادثة “صخرة الروشة” في هذا السياق العام، وتقييم سلوك رئيس الحكومة من هذا المنظور تحديدا، قبل أي منظور آخر.
مع العلم انه مع “حزب الله” أخذ اتجاه التعدي من الخاص على العام، بعداً اكثر شمولية وأكثر خطورة على كل ما هو “عام”، وعلى الدولة تحديدا كتسجيد مؤسساتي لهذا “العام”: من مصادرة قرار الحرب والسلم الى تعطيل المؤسسات الدستورية، الى ممارسة الأمن الذاتي في مناطقه وفرض الأمن على مناطق أخرى كما حصل في ٧ ايار ٢٠٠٨، واستخدام نظام مالي من خارج النظام المصرفي الذي يخضع للنظام المالي اللبناني ولرقابة مصرف لبنان.
من الخطأ النظر الى “حزب الله” كطرف سياسي يتعدى على ما هو “عام”. ف”حزب الله” لا يفعل ذلك بصفته حزب سياسي او ميليشيا بل بصفته حاكم ل”دويلة” داخل الدولة اللبنانية، بما يفترض بهذه الدويلة، مثلها مثل أي دولة، ان تحتكر ما تعتبره “عاما”، في إطار سيطرتها. لكن هذه “الدويلة” لا تتبنى مفهوم الدولة كما هو في الدولة اللبنانية او في الدول الديمقراطية، وخصوصا هذا الفصل بين القطاع العام والقطاع الخاص. اذ أن “حزب الله” حزب ديني شمولي، يبسط سلطته على ما هو عام وخاص، لا بل يكاد لا يميّز بين العام والخاص، والخاص بالنسبة له مجرد تجليات لهذا العام الذي هو العقيدة الدينية.
هذا الخلط بين العام والخاص، يحمله معه “حزب الله” عندما يتعامل مع شؤون الدولة اللبنانية، فمشروعه الام، هو تصدير الثورة الايرانية وتحويل لبنان إلى دولة اسلامية، اي عمليا توسيع حدود “دويلته”. ولا اعرف اذا كانت عودة الكلام عن ان الشيعة كانوا يسكنون في طرابلس او في كسروان مثلاً، هو في سياق المساعدة على الترويج لهذه العقيدة.
لكن بعد أن انكسر عسكريا أمام إسرائيل أصبح من الصعب عليه لا بل من المستحيل تحقيق مشروعه، غير انه لا يزال يتصرف بالذهنية نفسها في علاقته بالدولة. وفي حين انه لم يعد يستطيع الهيمنة عليها، فهو يمانع قيامها، وليست حصرية السلاح التي يرفضها الا شكل من أشكال هذا “العام” الذي يرفض الاعتراف به، ولا يزال يحاول الاستيلاء عليه ولو رمزيا، كما فعل باصراره على إضاءة صورتي نصرالله وصفي الدين على صخرة الروشة. وليس ذلك الا للدلالة على ان “شمولية” عقيدته، ممثلة بزعيمها، تشمل هذا “العام” وكل ما هو “عام”، وقد استخدم اصبع نصرالله المرفوع للقول صراحة انه لا يزال يمانع بالقوة قيام الدولة كما في السابق، وما حضور الأعلام الايرانية الا للتأكيد على استمرار حلم مشروعه الام.
مباشرة بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة جديدة ومع بدء الكلام عن ضرورة انخراط حزب للله بالدولة، تساءلت في مقال في “النهار” ما اذا كان حزب الله أصبح يفضل الشكل الفدرالي في الحكم بعد أن صار من الصعب عليه الهيمنة على الدولة او الانخراط فيها على حد سواء. اصراره على الحفاظ على سلاحه وأحداث صخرة الروشة تطرح التساؤل مجددا وبالحاح أكبر. مع علامة استفهام كبرى حول كيفية إيجاد حل للسلاح في الصيغة الفدرالية. ما يجعلنا نقرأ بالكثير من القلق تصريح توم برّاك: “إذا أراد اللبنانيون دولة واحدة وجيشاً واحداً فعليهم نزع سلاح حزب الله ومنع نشوب حرب أهلية”. والا فحرب أهلية وأكثر من دولة؟ السؤال مشروع، لكن الجواب يبقى حتى هذه اللحظة مرتبط بما يريده نتنياهو في سوريا وفي لبنان، بمباركة ترامب، لا سيما بعد أن ساير نتنياهو ترامب في قضية غزة.