بقلم غسان صليبي
تعبر اللغة عن ثقافة ما وإن كانت تساهم في انتاج هذه الثقافة في الوقت نفسه.
لفتتني منذ زمن كلمة “الواقع”، وتساءلت لماذا تسمّي لغتُنا ما هو قائم اليوم في مجتمعنا كأنما هو “واقع” علينا من فوق كالقدر، وليس نتاج تاريخنا وعملنا اليومي، وما مدى تأثير ذلك
على نظرتنا الى حياتنا ومعناها وقدرتنا على تغييرها.
لا شك ان نظرتنا الى حياتنا تتأثر بوعينا للعوامل التي نعتقد انها صنعت أو تصنع حياتنا هذه. وعلى الأرجح ان عاملين يتصدران هذه العوامل: العامل الاول هو خارجي ويشمل الاستعمار المديد لشعوبنا وخاصة من قبل العثمانيين والفرنسيين والانكليز، وما يشبه الاستعمار من قبل الاسرائيليين والسوريين والايرانيين، إضافة الى الهيمنة الحالية الاميركيةـالاسرائيلية، معطوفة على التبعية الاقتصادية وخاصة لبلدان الخليج ولاوروبا واميركا؛ والعامل الثاني هو ديني وهو يضع مشيئة الله في أولى الأوليات المؤثرة في حياتنا، بحسب اعتقادنا. والعاملان هما في علاقة متبادلة، الواحد يقوِّي الآخر فيرسّخان معاً في وعينا ان ما نعيشه ليس من صنعنا بل هو واقع علينا، ولا ضير اذن من تسميته ب”الواقع”.
منذ ايام قليلة وعلى أثر أعلان ترامب خطته لوقف الحرب في غزة، وعندما قرأت ان الاحتفالات عمت غزة بعد موافقة حماس على الخطة، قلت في نفسي ان الفلسطينيين يحتفلون بأنهم “على قيد الحياة”.
وسرعان ما توقفت وللمرة الأولى، عند تعبير “على قيد” الحياة، واستغربت لماذا نستخدم تعبير “على قيد” عندما نتكلم عن الحياة عندنا، وتأثير ذلك على نظرتنا إلى هذه الحياة.
وإذا بالقاموس يعينني ويؤكد استغرابي: “عبارة “على قيد” تعني “قيد” أو “تحت” في سياقات مختلفة، مثل “على قيد الاعداد” تعني تحت الاعداد أو “على قيد النظر” بمعنى قيد البحث او قيد الدراسة، كما انها قد تستخدم للدلالة على أن الشيء لايزال موجودًا ولم ينتهِ، كأن نقول “مازال على قيد الحياة” أي انه لا يزال حيًا”.
الحياة في هذا السياق هي موضوع شك دائم، فهي اما “تحت الاعداد” او “قيد الدراسة” أو علينا التأكد دائما انها “لاتزال موجودة ولم تنتهِ”.
أفهم تمامًا الآن لماذا جعلني “الواقع” في غزة انتبه إلى معنى “على قيد الحياة”.
لكني بعد التأمل في الموضوع أكثر أجد اننا جميعنا في هذه المنطقة نعيش في وضع هو “واقع” علينا ونحن في استمرار في حالة “على قيد الحياة”، وكأننا منذ ان اخترعنا في الزمن الغابر كلمتي “الواقع” و”على قيد الحياة”، لم يتغيَّر وضعنا ولا نزال نعيش ما عنته هاتان الكلمتان في حينه.