هل بقي لنا كلبنانيين غير المحبّة نسند إليها رأسنا؟

أعيد نشر هذا النص من كتابي "إنسانية يسوع" بمناسبة مئوية غريغوار حداد التي دعت اليها الحركة الاجتماعية

بقلم غسان صليبي

منذ بدايات دراساتي الجامعية، وأنا منشغل بالعلاقة بين المحبّة والنضال الاجتماعي والسياسي. الفارق بين البارحة واليوم، أن الخيارات في الماضي كانت مفتوحة، فيما هي اليوم جد محدودة. كان سؤالي في البداية: ما الذي ينقذ البشرية، النضال أم المحبّة؟ أصبح سؤالي اليوم بعد انكفاء انتفاضة 17 تشرين 2019: هل تستطيع المحبّة إنقاذ ما عجز عنه النضال في بلادي؟

أطرح السؤال من منطلقٍ علماني إنسانوي. لم تبقَ العلاقة عندي بين المحبّة والنضال الاجتماعي والسياسي، مجرّد إشكالية فكرية، بل شكّلت دائمًا أساسًا لطريقة تعاطيَّ مع الشأن العام، ومع الشأن النقابي بنوعٍ خاص.

وكانت لي فرصة اختبار هذه العلاقة عندما طلب مني صديقي الراحل المطران غريغوار حدّاد، تولّي مسؤولية “التنسيقيات” بين المؤسّسات الاجتماعية على المستوى الوطني، هذا المشروع الضخم الذي أطلقه في عزّ الحرب وإبان تقطيع أوصال الدولة. كنت آنذاك لا أزال مستشارًا للاتّحاد العمّالي العام، لكن مع ظروف الحرب وتقطّع العمل، كان باستطاعتي التفرّغ بعض الشيء للقيام بما طلبه مني غريغوار.

إذًا كان مطلوب مني، أنا القادم من النضال الاجتماعي السياسي وفكره وأساليب عمله، أن أنتقل إلى العمل في مجال التنمية والإغاثة. ربما توفّرت لي فرصة في المستقبل للكلام عن هذه التجربة وعن هذه الرفقة الجميلة مع غريغوار، التي لم نتكلّم خلالها عن الدين إلّا نادرًا جدًا. كان رجل دين ويمارس الطقوس الدينية، وأنا كنتُ ولا أزال لاأدريًا وإنسانويًا ولا أمارس هذه الطقوس. لكن، كلانا لم نكن نبالي. وكأن كلّ واحد منا كان مطمئنًا إلى أن ما يحرّك الآخر هي المحبّة ولا حاجة إلى حكاية أخرى ليخبرها أحدنا للآخر.

سمحت لي هذه التجربة بالمقارنة على الأرض بين أنشطة التنمية والإغاثة من جهة والنضال الاجتماعي السياسي من جهة أخرى. عندما كنتُ شابًا وأدرّب على هذه القضايا، كنتُ أعطي الأفضلية للصراع الاجتماعي والسياسي على الأعمال التنموية والإغاثية في مجال تحسين ظروف الناس، على أساس أنه الأقدر على إحداث تغييرات بنيوبة جذرية تؤمّن تبدّلًا أعمق في الأوضاع على المدى البعيد. وكانت المسألة تبدو كأنها خيارٌ بين مقاربتَين بدتا متناقضتَين.

مع غريغوار اكتشفتُ بالملموس أن هناك الكثير من الأوضاع والحالات الاجتماعية تستوجب تدخّلات سريعة لا يمكنها أن تنتظر التغيّرات البنيوية البطيئة، من مثل هذه التدخّلات مساعدة المشرّدين والمسنّين والمعوّقين والمستوصفات في خدماتها اليومية. لكن غريغوار كان يُغلّب دائمًا الهمّ التنموي البعيد المدى والمُخطّط له على متطلّبات الإغاثة الآنية، هو الذي رافق التجربة التنموية الشهابية، القائمة على الدراسات والتخطيط العلمي.

هكذا تعرّفت إلى ثلاثة ميادين في مجال تحسين ظروف البشر، واكتشفتُ بالممارسة أن لكلٍّ ضرورته ومقاربته وناسه وفائدته. والأهمّ أن لكلٍّ وقته، الذي لا تفرضه فقط حاجة الناس الملحّة، بل أيضًا الواقع الاقتصادي ككلّ وشروط العمل الاجتماعي والسياسي في البلد المعني.

أستذكر هذه المسائل في وقت يعاني لبنان انهيارًا شاملًا على الصعد كافةً، مما يستوجب أنشطة إغاثية متعّددة. في حين تعجز سبل المواجهة الاجتماعية والسياسية حتى الآن عن إحداث التغيير المنشود، في ظلّ انكفاء الانتفاضة وتبعية الاتّحاد العمالي للسلطة السياسية، وصعوبة التعويل على الانتخابات النيابية وحدها لإحداث التغيير المنشود.

أعمال الإغاثة والتضامن المجتمعي واكبت الانتفاضة حتى فى عزّ صراعها مع السلطة. اليوم أصبحت هذه الأعمال تستهلك معظم مجهودات مجموعات الانتفاضة والمجتمع المدني، خاصةً بعد انفجار المرفأ، ولو مع الاستمرار في تنظيم تحرّكات احتجاجية متقطّعة.

في هذا السياق، وفي إطار غلبة الجهد الإغاثي على ما عداه، أتساءل عن دور المحبّة في إيجاد منافذ خلاص لللبنانيين المقفلة في وجوههم السبل كافةً.

مروحة الإغاثة تتراوح بين المساعدات المالية والعينية، الغذائية والصحّية والسكنية والتعليمية وغيرها، إضافةً إلى الخدمة المباشرة لأشخاصٍ من أشخاصٍ آخرين. ويجري تطعيمها عادةً ببعض المشاريع التنموية المحدودة، من مثل التدريب والقروض المحدودة المسهّلَة للمساعدة على إنشاء مؤسّسات صغيرة حرفية. كذلك تُنظّم أنشطة مجانية فنّية أو ترفيهية، ويجري في بعضها توزيع هدايا للأطفال لمناسبة عيد الميلا مثلا.

يمكن للإغاثة أو التنمية أن تتمّا انطلاقًا من واجب ديني أو وطني أو أممي. ويمكنهما أن تتمّا أيضًا كتعبيرٍ عن المحبّة بين البشر. ما أتمناه في حالتنا اللبنانية، هو أن تكون أنشطة الإغاثة وما يرافقها من أنشطة تنموية محدودة، مناسبة لاختبار مشاعر المحبّة وتطويرها بين اللبنانيين. أكثر من ذلك، سيكون من الضروري أن تبتكر المحبّة أساليب أخرى للتضامن والتعاون، لا تندرج تحت مسمّى الإغاثة أو التنمية، بل بما أصبح يُعرف بالاقتصاد الاجتماعي التضامني البديل.

المحبّة لا تغيث أو تساعد أو تخدم فحسب، بل تغيّر ما في البشر، الذين يمارسونها، والذين يتلقّونها، وخاصةً على مستوى النظرة إلى الذات وإلى الآخرين وكذلك على مستوى النظرة إلى الخوف واليأس وإلى الواقع المأسوي الذي نعيشه، والذي سيبدو أرحم وقابلًا للتغيير من خلال المحبّة بين الناس. أعتقد أن تجربة المحبّة هذه بما تخلقه داخل الشخص وفي علاقته بغيره، كفيلة أيضًا بإعادة النبض إلى الصراع الاجتماعي السياسي وربما برؤية إنسانوية أعمق.

عندما تشحّ الموارد الخارجية، نعود إلى المورد الأم، الذي هو في أساس ولادتنا، نعود إلى المحبّة، هذه الطاقة التي تولد معنا وتستمرّ حتى الممات.

غريغوار حدّاد لم يكن يفصل دافع المحبّة عن كلّ مشاريعه الإغاثية أو التنموية، أو حتى السياسية، عندما كان يطرح العلمانية. رسالته المسيحية اختصرها بممارسة المحبّة وبالوقوف كلّيًا إلى جانب الفقراء، مما أدخله في صراعٍ طويل مع الكنيسة الكاثوليكية المحلّية. كم كان جميلًا لو كان غريغوار لا يزال حيًّا فيسمع البابا فرنسيس وهو يقول إن كنيسة يسوع إما تكون كنيسة الفقراء أو لا تكون كنيسته. يا ليته لا يزال حيًّا حتى يلتقي بالبابا في زيارته القريبة إلى لبنان.

“مقاربة المحبّة”، إذا صحّ التعبير، التي اعتمدها غريغوار، قامت على ما أعتقد على أركانٍ عدّة: عطاء من دون توقّع مقابل، عدم التعاطي بالمسائل المالية مباشرة من قبله، العمل مع فريقٍ متجانس متعدّد المذاهب ذي توجّه علماني، مساندة جميع اللبنانيين من دون تمييز وبحسب احتياجاتهم، الانطلاق من هذه الاحتياجات من خلال تنظيم اللقاءات مع المعنيين ومشاركتهم الكاملة في المشاريع، جهد متواصل لتجميع الطاقات والإرادات الحسنة من ناشطين وباحثين اجتماعيين، عدم الإحباط واليأس وابتكار الأمل رغم كلّ الصعوبات ومن دون إغفال التقييم النقدي، التوفيق بين المثالية والواقعية في العمل والحثّ على التفكير واقتراح مقاربات وأنشطة جديدة تواكب التغيّرات، إضفاء جو من الإلفة والودّ بين الجميع.

مع زحف الفقر إلى بيوت اللبنانيين، لا أعرف بعد كيف سيكون تأثير ذلك على الكنائس المسيحية. هل ستُجيِّر إمكاناتها الضخمة لنشل الفقراء من واقعهم، أم أنها ستستخدم الفقر لترسيخ المزيد من التبعية بينها وبين رعاياها؟ وماذا سيكون موقف رعاياها الفقراء، هل سيتشكّل عندهم وعي إيماني جديد أقرب إلى ما علّمه يسوع وبشّر به غريغوار، يضع المحبّة قبل الطقوس، ويؤدّي بدوره إلى إجبار الكنائس عل تغيير سلوكياتها؟

الموقف من السلطة هو موقف من الفقراء. فكلّما كانت الكنائس أقرب إلى السلطة، كانت أبعد من الفقراء الذين يعانون تحديدًا جراء سياسات هذه السلطة، وبشكل لم يعد يحتاج إلى إقناع. فهل تحسم المراجع الدينية أمرها، وبدل أن تدافع عن المواقع المسيحية، تأخذ موقفًا قاطعًا منها إذا أضرّت بمصالح شعبها؟ موقفًا قاطعًا، نصرةً للفقراء من جهة، وانتقادًا لِمُفقِريهم من جهة ثانية؟ “فليكن كلامكم نعم نعم أو لا لا، وكلّ ما زاد على ذلك، فهو من الشيطان”، قال يسوع.

يسوع لم يكن يفعل شيئًا من دون محبّة، وكانت المحبّة بالنسبة إليه نهج حياة، واجه بها ومن خلالها شروط البنى الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية، التي تعيق سعادة الإنسان.

نحن كلبنانيين بحاجة إلى التمسّك بهذا “الإيمان” أن المحبة في ما بيننا قادرة على مواجهة هذه الكراهية التي تحاصرنا من الخارج، وتلك التي تتحكّم بحياتنا في الداخل، من خلال نظام وأفراد مجرمين، سارقين، فاسدين ومرتَهنين.

اخترنا لك