بقلم خلود وتار قاسم
@kholoudwk
حين أعلنت آلة الحرب عن «قدسيتها»، ظنّت أنّها تكتب فصلًا جديدًا في ملحمة الانتصارات. غير أنّ ما لم تُدركه هو أنّها، في سعيها لطمس مدينة، أعادت رسم خريطة العالم الأخلاقية.
لقد أرادت أن تُخرج غزة من الجغرافيا، فإذا بها تُدخلها في التاريخ، لا كأرضٍ محاصرة بل كرمزٍ خالد للمقاومة والصمود، وكمرآةٍ كاشفةٍ لوجوه العالم الحقيقي، ذاك الذي يختبئ خلف شعاراتٍ لامعة عن الحرية وحقوق الإنسان، فيما تُدار الصفقات على دم الأبرياء في الظل.
ما جرى لم يكن حربًا عسكرية فحسب، بل حربًا على الوعي والكرامة واللغة.
سُخِّرت تكنولوجيا الاتصالات لتبرير المجازر، واستُخدمت الجامعات ومراكز الأبحاث لتجميل صورة القتل المنهجي، وابتُلعت الحقيقة الإعلامية في فم الخداع السياسي. لقد قُتِل مئات الصحفيين وهم يؤدّون واجبهم المهني، في واحدة من أبشع الجرائم ضد الذاكرة الإنسانية، فخسرت «الحداثة» نفسها ما كانت تزعم أنّها تحميه: حرية التعبير.
لكنّ الهزيمة الكبرى لم تكن من نصيب غزة، بل من نصيب العدو نفسه.
فقد خسر سلاح الرواية.
على مدى قرنٍ من الزمن، صُنعت له أسطورة «المظلومية» والتمدّن، ليُحقن بها وعي العالم، ويُشرعن كل عدوانٍ باسم الدفاع عن النفس. إلا أنّ صور الأطفال الممزّقين والبيوت المحروقة اخترقت كل حواجز الخطاب المعلّب.
انهارت الثقة، وتفكّكت التحالفات النفسية قبل السياسية. برزت عزلةٌ أخلاقية تحاصر إسرائيل من الداخل والخارج معًا، وتُحدث شرخًا غير مسبوق بين الشعوب وحكوماتها في الغرب. لقد انتصرت غزة في المعنى حين خسرت إسرائيل في الوجدان.
أما لبنان، فقصته لم تنتهِ بعد.
منذ ولادته وهو يعيش على خطّ التماس بين النارين، يحاول أن يبقى وطنًا وسط الخرائط المتغيّرة. يشبه نفسه في كل حرب: هشًّا كزجاجٍ ملوّن، لكنّه لا ينكسر. من الجنوب المقاوم إلى العاصمة المثخنة بالتعب، يبقى لبنان شاهدًا على أنّ الصمت لا يعني السلام، وأنّ البقاء نفسه فعل مقاومة.
وهنا يبرز السؤال الأعمق: ماذا يعني أن تنتهي القصة؟ هل تنتهي الحكاية عندما يسكت السلاح؟ أم عندما يُمحى من الذاكرة معنى العدالة؟
ربّما لا تنتهي القصة لأنّنا لم نكتب فصلها الأخير بعد — فصل الوعي، والمساءلة، واستعادة الإنسان من بين أنقاض الشعارات.
الحرب التي أرادت أن تمحو جغرافيا، أوقدت ذاكرةً لا تنطفئ.
وواجبنا الآن أن نحمي هذه الذاكرة من النسيان، وأن نحوّلها إلى ضميرٍ حيّ، ضميرٍ لا يطلب الثأر بل العدالة، ولا يقبل سلامًا بلا كرامة، ولا يُغلق القصة قبل أن يكتب تابِعها بنفسه.